ليس واضحاً ما تمخضت عنه القمة الأميركية الروسية الأولى في هامبورغ على هامش قمة العشرين. المعلن هو اتفاق، لم تُنشر تفاصيله، عن إقامة منطقة هدنة في جنوب شرقي سوريا، تشمل القنيطرة ودرعا والسويداء وسفح الجولان امتداداً باتجاه الحدود الأردنية السورية واللبنانية السورية.
الاتفاق، الذي من غير الواضح من سيضمن آليات تطبيقه، أو ما هي الآليات هذه أساساً، هو الثاني بين الدولتين، إذ سبقه في سبتمبر (أيلول) 2016 اتفاق أول بين الكرملين وإدارة الرئيس السابق باراك أوباما في حلب، كان حصيلة جولات مكوكية بين جون كيري وسيرغي لافروف، طالت 11 شهراً، ليسقط الاتفاق بعد 5 أيام فقط من الإعلان عنه.
ما الجديد؟ يأتي الاتفاق الروسي الأميركي بعد ثلاثة تطورات ميدانية مهمة في سوريا.
الأول تمثل في دخول أميركا مباشرة إلى الميدان السوري بآليات وقوات برية وقوات خاصة في منبج على الحدود السورية العراقية (بالإضافة طبعاً للدخول الميداني المستجد في الرقة). وهو دخول يزعج، بالحد الأدنى، الطريق البري من طهران إلى المتوسط عبر العراق وسوريا، أو يقفل هذا الطريق الآمن كلياً مبقياً على بديل له هو عبارة عن مسارب متعرجة وطويلة ومكشوفة تستخدمها إيران وتتحكم بها القوة النارية الأميركية عند اللزوم.
التطور الميداني الثاني تمثل في سلسلة ضربات وتحركات عسكرية أمر بها ترمب على امتداد «محور الشغب» في الشرق الأوسط، وهي غارة التوماهوك على مطار الشعيرات في سوريا، ضرب زورق إيراني قبالة سواحل اليمن، رمي «أم القنابل» في أفغانستان لأول مرة في تاريخ الجيش الأميركي، وتحريك قطعات بحرية قبالة سواحل كوريا الشمالية. وفي مؤشر على الاستمرار بسياسة التحفز الأميركية، شهد الميدان السوري ضرب ميليشيات موالية للنظام بالقرب من التنف، وإسقاط مقاتلة حربية روسية وطائرتين إيرانيتين من دون طيار، في سابقة واضحة غيرت طبيعة التدخل الأميركي في سوريا من مقاتلة «داعش» حصراً إلى مقاتلتها ومواجهة إيران والأسد عسكرياً حيث يلزم.
التطور الميداني-السياسي الثالث كان الاتفاق بين روسيا وتركيا وإيران على تحديد أربع مناطق منخفضة النزاع في سوريا، لم يتسن بعد للأطراف الاتفاق على آليات فرضها وضمان استمراريتها، ولا على حدود أدوار كل من تركيا وإيران، وهو ما أدى إلى فشل جولة آستانة الأخيرة.
وبالتالي يدرك بوتين أنه أمام معطيين: نجاح روسي سياسي جزئي في آستانة، وإدارة أميركية جديدة مستنفرة، وتمتلك من طاقة التحفز أكثر من إدارة أوباما التي كانت قد أهانت نفسها يوم وضع الرئيس السابق خطاً أحمر لبشار الأسد بشأن استخدام الأسلحة الكيماوية مهددا بضربة عسكرية، سرعان ما تراجع عنها بشكل بدد الهيبة الأميركية.
يضاف إلى كل ذلك أن فترة شهر العسل التي استمتع بها بوتين في سوريا انتهت، ولم تعد له اليد العليا في التحكم بالأحداث كما كان في السابق نتيجة ضعف الدور الأميركي، وفقدان إيران لثقتها بنفسها، ما استدعى أصلاً استجداء التدخل الروسي. تغيرت الوقائع. والحقيقة أن قواعد الاشتباك التي غيرتها واشنطن، تفاعلت معها إيران، وغيرت هي الأخرى قواعد الاشتباك من جهتها. في هذا السياق جاء إطلاق الحرس الثوري صواريخ أرض – أرض للمرة الأولى منذ ثلاثين عاما من قواعده غرب إيران على ما وصفه بأنه مقر قيادة تنظيم داعش في دير الزور شرق سوريا. وفي هذا السياق أيضاً، صرح أمين عام «حزب الله» حسن نصر الله في لبنان عن استعداده لفتح الجبهات أمام مئات آلاف المقاتلين الأجانب في سوريا ولبنان، لمقاتلة إسرائيل.
أما تركيا فهي تحشد شمال غربي سوريا في محيط مدينة عفرين، إحدى مدن محافظة حلب، مبدية استعدادها لتجاوز قواعد الاشتباك مع الأكراد المتفاهم
عليها مع واشنطن وموسكو، في حال شعرت أنقرة أن القوات الكردية ستسيطر على المدينة بغية وصل الكيان الكردي (كوباني والجزيرة) مع عفرين.
الأهم أن تركيا تعتبر أن الإمساك بعفرين سيمكنها من وصل أجزاء من ريفي حلب الشمالي والغربي (والشرقي لاحقاً إذا انهار «داعش»)، وريف حماة الشمالي، ومحافظة إدلب، التي تعتبرها أنقرة، هي عمقها الاستراتيجي الفعلي، قبل خسارة حلب، ولا سيما بعد خسارة حلب. هذا الكيان الجديد الذي يتمدد نحو بعض قرى اللاذقية أيضا على تخوم مناطق نفوذ نظام الأسد، هو «لواء الإسكندرون 2»، الذي هو امتداد طبيعي وجغرافي للواء الأول الذي صار جزءاً من الجغرافيا التركية، وهو اليوم العقدة الأهم في جغرافيا النفوذ في سوريا.
من ضمن هذا المشهد السوري الجديد قيد التشكل، والذي يميزه غياب عربي فاقع، يأتي الاتفاق الأميركي الروسي في جنوب غربي سوريا. نقطة الضعف الجدية التي تهدد مستقبل هذا الاتفاق وإمكاناته تكمن في عدم تماسك السياسة الخارجية الأميركية، بسبب إشارات متناقضة تصدر عن الإدارة، وخلافات علنية بين البيت الأبيض والبنتاغون، الذي لم يُستشر حول الاتفاق الأخير مع روسيا، واختلافات أخرى بين ترمب والخارجية في أزمات أخرى آخرها قطر، دعك عن ملفات الداخل الأميركي التي تعصف بإدارة ترمب.