بعدما كان لبنان يتخبّط في أزماته الداخلية الكبيرة – الصغيرة، إستفاق مسؤولوه أخيراً، ولو متأخرين، على كارثةٍ تُهدّد كيانَه ووجودَه وتضرب توازناتِه الديموغرافية الدقيقة، بلا أفقٍ لحلّها.
ينقص بعض السياسيين اللبنانيين مراجعة التاريخ جيداً لأخذ العبَر والتعلّم من دروس الماضي، خصوصاً أنّ لبنان شكّل على مدى الأزمان أرضاً خصبةً للغزاة والطامعين بموقعه الإستراتيجي.
وبالعودة الى الماضي البعيد والقريب، فإنّ رحلات الغزو الديموغرافي قديمةٌ جداً، فلم يكن أحدٌ يعلم أنّ القبائل العربية التي جلبها الأمويّون ومَن بعدهم لمحاصرة جبل لبنان المتمرد على حكمهم والذي كان يرفض دفع الجزية نظراً لانتماء أبنائه الى الدين المسيحي، سيبقون في هذه الأرض الى أبد الآبدين.
ومن جهة ثانية، فإنّ لبنان الذي شرّع أبوابَه أمام اللاجئين الفلسطينيين في إعتبار أنهم إخوةٌ ومظلومون، وأنّ وجودَهم وإقامتهم في لبنان موقتة، خصوصاً أنّ القسمَ الأكبر هرب وهو يحمل مفاتيح بيته وسيعود غداً الى بلاده، دفع ثمن هذا الإستقبال من إزدهاره وسبّب له حرباً أهليّة إمتدت 15 عاماً ودمّرت الحجر والبشر، بعدما أصبحت «طريق القدس تمرّ بجونية».
وأمام الخلاف على جنس الملائكة في طريقة حلّ أزمة النزوح السوري بين فريقٍ يطالب بالتفاوض مع النظام السوري وآخر يرفض هذا الأمر في المطلق، يبرز في هذا المجال موقفٌ روسيٌّ متقدّم، حيث تكشف مصادر ديبلوماسية عاملة في موسكو لـ«الجمهورية» أنّ وزيرَ الخارجية الروسي سيرغي لافروف يبدي خلال لقاءاته مسؤولينَ لبنانيين، وآخرهم كان رئيس «اللقاء الديموقراطي» النائب وليد جنبلاط، إستعدادَ بلاده للمساعدة في حلّ هذه القضية.
ويعتبر لافروف أنّ لروسيا صولاتٍ وجولاتٍ في هذا الشأن، فهي رعت وأمّنت عودة العدد الأكبر من النازحين الى حلب الشرقية، وعملت مع النظام السوري على تسوية أوضاعهم وقد أمّنت لهم عودةً كريمة، ما قدّم نموذجاً يمكن تكراره، لذلك على لبنان أن يقوم بخطوات من أجل ذلك، وموسكو مستعدة لتقديم العون.
وتشدّد المصادر الديبلوماسية على أنّ موسكو تتعامل مع أزمة النزوح، خصوصاً في شقّها اللبناني، على أنها مهمة جداً، ويؤكد المسؤولون الروس أنّ تكريس «مناطق خفض النزاع» في سوريا سيؤدّي حكماً الى تثبيت مناطق آمنة تسمح بعودة الجزء الأكبر من النازحين، مع أنّ البعض يرى أنّ هذه المناطق تُقسّم سوريا، غير أنّ الروس لا يؤيّدون هذه الفكرة.
وتشير المصادر الى أنّ موسكو مستعدّة للتواصل مع النظام السوري من أجل تأمين عودة النازحين، وعلى رغم إبداءِ بعض المسؤولين اللبنانيين عدم رغبتهم في التواصل مع دمشق، يرى الروس أنّ اللبنانيين مخطئون في هذه النقطة لأنّ اللعبة السورية تخضع لتوازنات دولية ولا مؤشر الى سقوط نظام الرئيس بشار الأسد قريباً، فهل سيتحمّل لبنان أزمة النزوح الى أمدٍ غيرِ منظور؟
وفي سياق التواصل الروسي – اللبناني، ستشكّل زيارة رئيس الحكومة سعد الحريري لموسكو في أيلول المقبل محطةً مهمة للبحث في الأزمات، وستحتلّ أزمة النزوح الجزءَ الأكبر من المحادثات، وربما تكون بدايةً لوضع خطة للحلّ، مع إبداء المسؤولين الروس إنفتاحَهم على أيّ خطوة تحفظ أمنَ لبنان واستقرارَه، لكنهم في المقابل يعتبرون أنّ هذا الأمر يحتاج قراراً سياسياً ما زال غير متوافر بسبب الخلافات الداخلية.
ويؤكد المسؤولون الروس أنّ التواصل مع الدولة اللبنانية لم ينقطع، وروسيا تبدي في كل المحطات دعمَها للبنان، خصوصاً أنّ سياسة الرئيس فلاديمير بوتين واضحة في عدم التدخّل في الشؤون الداخلية اللبنانية ودعم فريق ضد آخر، في حين تبدي موسكو إستعدادَها للتعاون في المجالات كافة ولا سيما العسكرية منها، لكنّ الأزمة الاقتصادية لا تسمح لها بتقديم دعمٍ سخيّ للجيش والأجهزة الأمنية مثلما تفعل واشنطن ولندن.
قد تشكّل موسكو جسرَ عبور لحلِّ أزمة النازحين، إنما هذا الأمر يحتاج الى قرار سياسي لبناني يُعيد النازحين، في حين أنّ الأمم المتحدة لم تلعب يوماً دوراً في حلّ الأزمات، وقضيةُ اللاجئين الفلسطينيين أكبرُ دليل، بل إنّ كلّ ما خرجت به منذ يومين هو تأكيد العودة الطوعية، أي ترك الخيار للنازح، وهذا يعني توطيناً مقنَّعاً، في حين أنّ هناك جمعياتٍ وجهاتٍ لا تريد عودتَهم الى بلادهم، ربما لأنها تستفيد منهم مادياً و»تقبض» ثمنَ بقائهم.