IMLebanon

هل يقوى الحراك على الاختراقات..؟

ما كنا نخشاه مع أكثرية اللبنانيين، بدأت صورته تظهر في أكثر من مشهد:

– الشارع بدأ يتحوّل إلى شارعين.. بل وإلى مجموعة شوارع.

– نقاوة الحراك المدني وطهارته، آخذة في التلوث والانتهاك أكثر، يوماً بعد يوم.

– الشعارات المطلبية والإصلاحية أصبحت، بين ليلة وضحاها، هتافات شخصية وانتقامية، ضد شخصيات سياسية وحزبية.

– سلامة الحراك، وأساليبه السلمية أضحت في خطر داهم، بعد ظهور المجموعات المدافعة عن الرموز والشخصيات مهددين باستعمال العنف ضد المتظاهرين.

– التدافع المستمر مع قوى الأمن مرشّح ليصبح صداماً مباشراً مع المتظاهرين عند أول شرارة تصدر عن «طرف ثالث»، وما أكثر من وجود بضعة «أطراف ثالثة»!

رب قائل إن أي تحرّك شعبي بهذا الحجم، لا بدّ أن ينتج عنه مثل هذا الاضطراب الأمني، وما قد يسبقه من اهتزازات في النسيج الاجتماعي والسياسي، لخلخلة بنية الطبقة السياسية الحاكمة.

هذا صحيح، قياساً على العديد من التجارب التي ما زالت ساخنة، وشهدت ساحاتها صدامات عنيفة ومباشرة بين مؤيدي السلطة ومعارضيها!

ولكن الأصح أيضاً، أن الوضع السياسي والاجتماعي والمعيشي في البلد، بلغ حداً من التردي، لم يعد يحتمل مثل هذا الانقسام والصدام في الحراك الاجتماعي، الأمر الذي يُخشى معه أن يؤدي تكرار الصدامات، إلى تفلت الوضع من الضوابط التي تحكم حركته، وخروجه عن السيطرة، والسقوط في مهاوي الانهيار القاتل!

* * *

ومنظمو الحراك، يُدركون أكثر من غيرهم، مخاطر دخول جهات حزبية وسياسية لا وجود لها على الخريطة السياسية، محاولة الاستفادة من الغضب الشعبي، وتصدّر واجهة الحراك، في محاولة يائسة جديدة للعودة إلى الساحة السياسية.

ولا بدّ من التسليم بأن تلك الجهات استطاعت تحقيق اختراقات لافتة، ليس على مستوى الحضور وإثبات الذات وحسب، بل وعلى صعيد توجيه الشعارات والهتافات، ضد الخصوم التاريخيين للقائمين على بقايا الفلول الحزبية والسياسية، التي خرجت من المشهد السياسي منذ فترة من الزمن.

من مؤشرات هذا الاختراق، تركيز الشعارات وأعداد اليافطات الموجهة ضد بعض القيادات السياسية، وليس كلها، وفي مقدمتها الرئيس نبيه برّي.

لسنا في معرض الدفاع عن عرّاب طاولة الحوار، فالرجل لديه من الإمكانيات والقدرات، ما يُغنيه عن الاستعانة بأي طرف آخر.

ولكن لا بدّ من التصدّي لمغامرة جر البلد إلى حالة من الفوضى السياسية والأمنية، من خلال التشكيك بشرعية المؤسسات الدستورية، وفي مقدمتها مجلس النواب، الذي ورغم التمديد المتكرر لأعضائه، ما زال يُشكّل صمّام أمان يحول دون وصول النظام إلى السقوط والانهيار.

وبغض النظر عن النقاش السفسطائي حول شرعية التمديد للمجلس النيابي من عدمه، فإن وجود مجلس نواب مُمدّد لنفسه، أفضل مئة مرّة من عدم وجود مجلس نيابي يُجسّد السلطة التشريعية، ويؤكد صمود الدولة أمام تحديات هذه المرحلة الصعبة.

ولا ندري إذا كان شباب الحراك، قد عاصروا، أو بعضاً منهم على الأقل، تجربة التمديد للمجلس النيابي المنتخب عام 1972، لمدة ثماني عشرة سنة، للحفاظ على بقايا الشرعية والدولة، حيث قام المجلس بانتخاب خمسة رؤساء جمهورية هم: الياس سركيس، بشير الجميل، أمين الجميل، رينية معوّض والياس الهراوي، وجرت الانتخابات الرئاسية في مواعيدها الدستورية، باستثناء انتخاب الراحلين رينيه معوّض والياس الهراوي، بسبب احتلال رئيس الحكومة العسكرية البتراء ميشال عون لقصر بعبدا، وتعطيله إجراء الانتخابات، لأن الأكثرية النيابية، لم تكن تؤيده رئيساً للجمهورية!

والطريف في الحراك المدني اليوم، أنه عوض أن يتوجه إلى مقرات القيادات السياسية التي تعطل أعمال المؤسسات الدستورية من مجلس النواب إلى مجلس الوزراء، إلى رئاسة الجمهورية، وتشل إدارات الدولة، وتفاقم الأزمات التي تعاني منها الأكثرية الساحقة من اللبنانيين، يزحف المتظاهرون إلى المقرات الدستورية التي ما زالت تحافظ على ما تبقى من وجود الدولة ورمزيتها!

* * *

التغيير لم يعد مجرّد شعار، بل هو حاجة ملحة وضرورة.

ولكن التجارب المريرة التي تعاني منها دول الجوار، علّمت اللبنانيين دروساً قاسية، ليس أقلها عدم الانجرار إلى أية موجة تغيير عشوائية وانفعالية، تفتقد إلى الحد الأدنى من التماسك والوضوح عبر برنامج مدروس، يُجسّد رؤية مستقبلية واعدة، تعتمد المناهج العلمية والعملية والواقعية نهجاً لتحقيق أهدافها، بعيداً عن التخبّط في الارتجال والفوضى، ولتجنب الانجرار إلى المغامرات المسلحة، التي عانى البلد من ويلاتها طوال سنوات الحرب السوداء!

وتحسباً من تكرار ما جرى أمس، وتطور أحداثه لاحقاً إلى الأخطر، لا بدّ لمنظمي الحراك المدني من مراجعة شاملة ودقيقة لأساليب المرحلة السابقة ونتائجها، والاستفادة من الأخطاء، والعمل في الوقت نفسه على تراكم الإيجابيات، وذلك من خلال تحصين هذه الظاهرة الشعبية النظيفة من أي اختراق سياسي، والتصدي لمحاولات الاستغلال الحزبي، من أي جهة أتت، والمبادرة إلى حماية المؤسسات الدستورية لا مهاجمتها، وطرح برنامج مرحلي يساهم في إخراج البلاد والعباد من مسلسل الأزمات التي يتخبّط فيها، والعائد القسم الأكبر منها إلى هذا الشغور المُعيب في رئاسة الجمهورية.

الحراك المدني أمام مفترق مفصلي: إما أن يصحح الانحرافات ويقوى على الصعوبات والتحديات.. وإلا فإن الاختراقات والانتهازيات ستغلبه، وتفرغه من أي مضمون وطني طامح للتغيير والتحديث!