في مؤتمر بوتسدام، الذي عُقِد للبحث في مصير المانيا بعد الحرب العالمية الثانية (17 تموز – يوليو – 1945)، سأل الرئيس الاميركي هاري ترومان الزعيم السوفياتي جوزف ستالين عن أفضل الوسائل العملية لمنع تكرار تلك الحرب المدمرة. وأجابه ستالين وهو ينفث دخان غليونه في القاعة الفارهة، بالقول: إذا كان المنتصر هو الذي يفرض شروطه وإرادته، فإن قواتنا ستثبت احتلالها للجزء الشرقي من المانيا، بينما تستمر قواتكم في هيمنتها على الجزء الجنوبي. وهكذا بقيت تلك القاعدة التي رسمها ستالين سارية المفعول حتى بعد مشاركة بريطانيا وفرنسا في أخذ نصيبهما من الأراضي الألمانية المحتلة. وخلال زيارتي للألمانيتَيْن بعد التقسيم، التقيت السفير خليل مكاوي في برلين الشرقية أواخر سنة 1977. ومن هناك انطلقت الى بوتسدام حيث سمحت لي السلطات بالإطلاع على وقائع محاضر جلسات الزعماء الأربعة، أي ستالين وتشرشل وديغول وترومان (لأن روزفلت كان قد مات).
والإنطباع الذي كوّنته عن مواقف الأربعة من خلال جلسات استمرت نصف شهر تقريباً، هو أن تقسيم المانيا كان الحل العملي الذي اتفق عليه المنتصرون، كونه يؤدي الى تطويق إندفاع هذا الشعب المقاتل، ويصدّه عن تكرار محاولات التوسع في اوروبا. وفي الوقائع، ترددت داخل الاجتماعات، أكثر من مرة، عبارة “كعكة الملوك”. وهو المصطلح الذي أطلقه الاوروبيون على بولندا، البلاد التي تعرضت للقضم والنهش من قبل روسيا والمانيا والنمسا خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وصولاً الى الحربين العالميتين، الأولى والثانية.
الأسبوع الماضي استخدم خبير العلاقات الدولية في روسيا أنطوان مارداسوف مصطلح “الكعكة السورية”، متوقعاً أن يتمحور الاتفاق بين أنقرة وموسكو حولها. وقد سبق للرئيس فلاديمير بوتين أن أشار في إحدى خطبه الى “الشعوب السورية” المتحدة، على شاكلة شعوب روسيا الاتحادية. ثم تراجع عن هذا الوصف عندما انتقده مسؤولون في نظام بشار الأسد لأنه أوحى للمعارضة باقتطاع حصتها من “سوريا المفيدة”، أي من سوريا التي تضم المدن الكبرى مثل دمشق وحلب وحمص وحماة وإدلب، إضافة الى الساحل الممتد حول اللاذقية وطرطوس.
بعد طرد “داعش” من العراق وسوريا، قررت إدارة الرئيس دونالد ترامب مراجعة موقفها من الدور السوري في الشرق الأوسط، والذي تعتبره شبيهاً بدور المانيا داخل اوروبا، أي دور دولة مشغولة دائماً بتحدي جاراتها وإقلاق أمنها في: تركيا والعراق ولبنان والأردن واسرائيل. واستناداً الى الأحداث السابقة، فإن الولايات المتحدة تعتبر دمشق عاصمة للتنافس الإقليمي الذي استدعى التدخل الخارجي بهدف ضبط التوتر الذي تنشره في المنطقة. وعليه قررت تأييد مقترحات الجارات المطالبة بسلامة حدودها.
عقب نجاح ايران في تثبيت مواقعها داخل العراق وسوريا ولبنان، باشرت طهران في إرسال قوات حرس الثورة الى الحدود مع اسرائيل. وفي شهر كانون الأول (ديسمبر) الماضي، شوهد قيس الخزعلي، قائد “عصبة أهل الحق” في العراق، يزور الحدود برفقة أحد رجال “حزب الله.” وعلى الصعيد الاستراتيجي، فإن تهديد اسرائيل المتواصل من قبل ايران دفع بنيامين نتنياهو الى الاتفاق مع الرئيس بوتين على مدّ حدوده الآمنة مسافة أربعين كيلومتراً داخل سوريا. ولم تكن الغارات التي يشنها الطيران الاسرائيلي ضد مستودعات أسلحة تخص “حزب الله” سوى دليل على رفض كل مراعاة لروسيا في منطقة تعتبرها اسرائيل حيوية بالنسبة لأمنها. وأشار المراقبون في حينه الى أن القصف الاسرائيلي يكشف عمق العلاقة والتنسيق القائم بين روسيا واسرائيل بشأن الوضع في سوريا. وهذا يعني وجود تفاهم بينهما يسمح بحرية التحرك في الأجواء السورية عندما يتعلق الأمر بأسلحة وصواريخ يمتلكها “حزب الله.”
أما بالنسبة الى أمن تركيا، فإن قرار الرئيس رجب طيب اردوغان شنّ حملة عسكرية ضد المقاتلين الأكراد في عفرين لم يكن أكثر من مدخل لتثبيت وجود قواته وتأمين منطقة آمنة طولها أربعون كيلومتراً.
تشير المعلومات الى أن اردوغان اتخذ قراره عقب إعلان واشنطن إنشاء قوة أمن حليفة على طول الحدود مع تركيا قوامها 30 ألف مقاتل، تحت قيادة “قوات سوريا الديموقراطية” (قسد). وتعليقاً على إعلان التحالف، أكدت أنقرة أن قرار واشنطن تدريب عناصر قوة حدودية في سوريا خطوة مقلقة وغير مقبولة. لذلك صرح اردوغان بأن بلاده ستواصل التدخل في عفرين عبر عملية “غصن الزيتون”، والتي هي في حقيقتها حركة استكمال لعملية “درع الفرات.”
وكانت أوساط ديبلوماسية قد نقلت عن وزير خارجية روسيا سيرغي لافروف قوله إن موسكو نجحت في ضبط تركيا لعدة شهور قبل الاستفزاز الاميركي الأخير. ولمح في حديثه الى مخاوف بوتين من احتمال نسف “مؤتمر الحوار الوطني” في سوتشي.
ويرى المحلل العسكري الروسي الكسندر غولتس أن ما يحدث في شمال سوريا يتوافق مع وجهات نظر موسكو وأنقرة حول كيفية تنظيم السياسة الدولية. لذلك زار موسكو رئيس الأركان العامة في تركيا ورئيس جهاز الاستخبارات بهدف الحصول على موافقة بوتين قبل الغزو. وهذا ما حمل الأكراد على اتهام روسيا بالخيانة. ولكن لموسكو حسابات مختلفة مفادها أن هزيمة الأكراد تجعلهم مستعدين للإرتماء في أحضان نظام بشار الأسد. وهذه ليست المرة الأولى التي تستخدم فيها روسيا البعبع التركي لجني مكاسب من الأراضي المستباحة. وتدّعي واشنطن أن روسيا وعدت الأكراد بالحصول على حكم ذاتي شرط التعاون مع الأسد في التحكم بملفي الحدود والأمن.
بقي السؤال المتعلق بالدوافع الحقيقية التي تقف وراء قرار عملية “غصن الزيتون” في عفرين: هل هو قرار مرتجل فرضته سياسة الأمن الداخلي في تركيا؟ … أم هو تعبير عن استراتيجية قديمة كانت تظهر وتخبو حسب العلاقات الاقتصادية؟
يقول المطلعون على مركز القرار في أنقرة إن الاحتمالين مطروحان منذ جنّد الرئيس الراحل حافظ الأسد عبدالله أوجلان، ووضعه في خدمة علاقاته مع تركيا. وقد ارتضى رئيس “حزب العمال الكردستاني” (ب.ك.ك.) بهذا الدور لإيمانه بأن الأسد سيتساهل معه نتيجة نزاعه مع جماعة الاخوان المسلمين.
باشر أوجلان حملاته ضد تركيا سنة 1984، متخذاً من منطقة البقاع اللبنانية مركزاً لتدريب وحدات الجهاد، وملاذاً آمناً له ولأنصاره. ولما طلبت أنقرة من واشنطن مساعدتها على البحث عن أوجلان، فوجئت بتزويدها بصور تمثله وهو يخرج من مكتبه في دمشق. وأرسلت تركيا عدداً من الصور الى حافظ الأسد مع تهديد سافر بغزو العاصمة السورية في حال تمنّع عن تسليم زعيم “حزب العمال الكردستاني.”
جهاز الاستخبارات السوري وضع خطة لتهريب أوجلان الى نيروبي في كينيا أي الى حيث سهل للاستخبارات التركية خطفه ومحاكمته. وربما تكون تلك العملية أحد أهم الأسباب التي تقف حائلاً دون عودة المياه الى مجاريها بين دمشق وأنقرة. ثم جاءت الحرب الأهلية في سوريا لتلقي في أحضان تركيا نحواً من ثلاثة ملايين ونصف المليون لاجئ. وهي في صدد إعادتهم بصورة تدريجية، خصوصاً بعدما اكتشفت أن بعض عناصرهم ينتمي الى الاستخبارات، والى زارعي المتفجرات في اسطنبول.
مرة أخرى، يكشف راعيا النظام السوري – أي روسيا وايران – أن دون التوصل الى سلام دائم فوق أراضي سوريا المفيدة مسافة زمنية طويلة… أطول من السنوات السبع التي قضاها هذا الشعب المعذب وهو يهرب من دمار الى خراب… ومن ملجأ الى معسكر!