Site icon IMLebanon

 هل تنجح «قبضة ترامب» أم أنها أزمة نووية ثانية؟

 

الرئيس دونالد ترامب لا يريد بالتأكيد أزمة نووية ثانية. يكفي العالم هذا التوتر الذي تثيره كوريا الشمالية بتجاربها الذرية وصواريخها الباليستية. حمْلتُه على إيران في خطابه أمام الجمعية العمومية للأمم المتحدة الأسبوع الماضي وضعها خصومه في إطار ما درج عليه منذ توليه مهماته، أي استعادة بعض خطبه وشعاراته التي رفعها أثناء الحملة الانتخابية. فهو لم يتخل عن وصف اتفاق الدول الست مع الجمهورية الإسلامية بأنه «معيب» ومن «أسوأ الصفقات»، وأعلن أنه اتخذ قراره في شأن الموقف من هذا الاتفاق، لكنه لم يقدم أي تفاصيل، علماً أنه كان صرح في إحدى حملاته قبل نحو سنتين بأنه «عقد شنيع لكنه موجود». ودعا يومها إلى مزيد من العقوبات على طهران حتى «يأتوا إلينا». لكنهم في الواقع لم يأتوا، بل إن سلفه باراك أوباما هو من ذهب إليهم وتعامى عن كل سياساتهم في المنطقة العربية وبرنامجهم الصاروخي من أجل تسجيل هذا «الإنجاز» في نهاية ولايته الثانية. وقد فصلت إدارته بين الاتفاق والمشكلات الأخرى في الإقليم، وسياسات إيران للهيمنة وبسط السيطرة. لذلك لم تتوان هذه عن مواصلة استفزازاتها في الخليج والمنطقة عموماً، وتعزيز ترسانتها العسكرية والصاروخية خصوصاً. وعرضها يوم الجمعة صاروخاً باليستياً متعدد الرؤوس بدا تحدياً واضحاً للإدارة الأميركية واختباراً لمدى قدرتها على التحرك، فيما يقترب رجال هذه الإدارة من وضع استراتيجية واضحة للتعامل معها.

لم يفصل الرئيس ترامب مساوئ الاتفاق النووي. ولا يعود ذلك إلى كونه لا يملك خطة واضحة لترجمة أفكاره أو رؤيته إلى هذه الصفقة، أو لأنه يريد فقط تدمير كل ما حققه سلفه. صحيح أنه لم يقدم بعد عقيدة أو استراتيجية واضحة حيال معظم قضايا الداخل أو المشكلات الدولية. لذلك اعترت مواقفه حال من التخبط، وقامت تناقضات بينه وبين بعض حكومته. يكفي هذا الكم من الاستقالات والإقالات التي حصلت حتى اليوم وهو لم يكمل بعد عامه الأول في البيت الأبيض. لكن الصحيح أيضاً أن خطابه في الجمعية العامة ليس المكان المناسب لشرح ما ستعتمد بلاده للرد على تصرفات إيران التي اتهمها بـ «دعم الإرهاب وتصدير الفوضى والعنف والدم إلى دول مجاورة»، مندداً بنشاطاتها «المزعزعة لاستقرار المنطقة». ترجمة رؤيته لتصحيح الاتفاق النووي والرد على سياسات طهران ستكون بالتوجه إلى الشعب الأميركي، وعبر المؤسسات، من الكونغرس إلى وزارات الخارجية والتجارة والدفاع والأمن. لكن كلمته في نيويورك حملت نبرة من التحدي للأمم المتحدة، كما رأت «وول ستريت جورنال»، ودعوة صريحة إلى العالم لينضم إلى الولايات المتحدة في المطالبة بأن توقف حكومة إيران «سعيها خلف الموت والدمار». ورأى انه «لا يمكن التزام اتفاق إذا وفر غطاء لبرنامج نووي في نهاية المطاف».

لكن المفارقة أن أوروبا التي وقفت دائماً خلف الولايات المتحدة في التعامل مع إيران منذ قيام الثورة الإسلامية، تبدو هذه المرة قريبة من موقف الصين وروسيا في تمسكها بالاتفاق. ولا ترغب في بعث أزمة نووية ثانية بعد الأزمة المستفحلة مع كوريا الشمالية والتي تهدد باندلاع حرب نووية، على وقع التهديدات المتبادلة بين واشنطن وبيونغيانغ. وتسأل عن البديل، بل إن بعضها يعتقد أن السعي إلى «قتل» هذه الصفقة او تعديلها سيدفع الجمهورية الإسلامية إلى تعزيز نشاطاتها لزعزعة الاستقرار في المنطقة، فضلاً عن العودة إلى استكمال برنامجها النووي. فالرئيس حسن روحاني كان واضحاً في الرد على خطاب الرئيس ترامب، فهو عدّ الاتفاق بناء كاملاً، ونبه إلى أن نزع حجر منه سيؤدي إلى انهياره. وهدد صراحة بأن بلاده ستكون مطلقة اليدين بما في ذلك إعادة التخصيب إذا انسحبت منه الولايات المتحدة. ولن تستطيع حكومته، في ظل المواجهة المستمرة بينها وبين المحافظين المتشددين الذين لم يهضموا بعد توقيع الاتفاق، أن تعيد فتح باب التفاوض في شأنه مجدداً. ولا يمكن روحاني المجازفة في هذا المجال. فهو يدرك أن هذه الصفقة أعادت عملياً الجمهورية الإسلامية إلى المجتمع الدولي، ولا يعقل أن يجازف منتقدو سعيها إلى الهيمنة أن يجازفوا هم أيضاً بدفعها مجدداً إلى العزلة. فهي حققت من ورائه مظلة أمان للنظام وإقراراً ضمنياً بسياساتها التوسعية في الإقليم. بخلاف ما راهنت عليه إدارة أوباما التي اعتقدت بأن استعادة الجمهورية الإسلامية إلى المجتمع الدولي ستدفعها تدريجاً إلى أداء دور يساهم في استقرار المنطقة ويؤدي إلى تغيير داخلي، خصوصاً أن الرئيس الأميركي السابق حرص على طمأنتها إلى أن بلاده لا تنوي تغيير النظام، وقد طوت التلويح باستخدام الخيار العسكري، متجاهلة حماسة إسرائيل إلى هذا الخيار.

في أي حال تدرك الإدارة الأميركية والمتمسكون بالاتفاق أن المشكلة ليست في البنود التقنية التي تضمنها، فالمفتشون الدوليون يعلنون أن إيران تفي بالتزاماتها، ومثلهم المؤسسات الأميركية المعنية بمراجعة بموجباته. من هنا إن ما يرمي إليه الرئيس ترامب هو دفع شركائه من الدول الكبرى والمانيا وغيرها من الدول، لممارسة ضغوط على الجمهورية الإسلامية لتمديد فترة العمل بالاتفاق، فلا تعود الأزمة إلى الواجهة في العقد المقبل، كما هي الحال مع كوريا الشمالية التي هدد بتدميرها، ولا يزال يغازل الصين للمساعدة في حل الأزمة مع بيونغ يانغ. وهو يهدف أيضاً إلى فتح باب الحوار في سياساتها في «الشرق الأوسط الكبير» وتقليص هيمنتها في العالم العربي. لذلك لجأ في كلمته أمام الجمعية العمومية إلى خطاب يستحضر أجواء الحرب الباردة في تصنيفه إيران «دولة مارقة» مع دول أخرى على رأسها كوريا الشمالية، وهدد -شأن أسلافه- بأنه سيلجأ إلى استخدام القوة العسكرية لحماية المصالح الأميركية، مشيراً إلى أن الجيش الأميركي «سيصبح قريباً أقوى من أي وقت مضى»، ولوح بـ «التصرف» إذا فشلت الديبلوماسية مع بيونغيانغ وطهران. إنه يمارس ضغوطاً مزدوجة، فمن جهة يدفع المواجهة مع «الدول المارقة» إلى حافة الهاوية وإن كانت حرباً نووية، لتوكيد قيادة أميركا العالم، ومن جهة أخرى يستنفر الدول الكبرى التي تسعى إلى الإفادة من الأزمة مع كوريا الشمالية لإضعاف هيبة الولايات المتحدة بطرح حلول تساوي بين القوتين، متجاهلة مسؤوليتها عن الحد من انتشار السلاح النووي، في حين أنها لن تكون بمنأى عن أي حريق يصيب الإقليم. وإذا كانت بكين لاقت واشنطن إلى منتصف الطريق لكبح جماح كيم جونغ أون، فإن الرئيس ترامب يريد منها المزيد، مثلما يريد من روسيا التي فوض إليها إدارة الأزمة السورية فأطلقت يدها في المشرق، أن تساهم معه في تقليص نفوذ إيران بدل تسهيل ترسيخه، خصوصاً في بلاد الشام، وتنسق معها في أفغانستان تقويضاً لسياسة واشنطن في هذا البلد من خلال فتح قنوات مع «طالبان» وغيرها من قوى مناوئة لحكومة كابول.

تهديدات الرئيس ترامب كوريا الشمالية لم تثمر حتى الآن في ردع زعيمها أو دفعه إلى البحث عن تسوية ديبلوماسية، بل زادته عناداً وتحدياً. وقد يكون تفاؤله في نجاح سياسة الضغط على إيران في غير محله، حتى المزيد من العقوبات قد لا يثمر. طهران بنت نفوذها في المنطقة العربية فيما هذه المنطقة تمر بأسوأ الأوضاع. توسعت وهي تحت الحصار ولم تنتظر الإفراج عن أرصدتها المجمدة في الولايات المتحدة أو في أوروبا. وسيكون شبه مستحيل في الظروف الراهنة أن يقبل الرئيس روحاني بالعودة إلى بعض بنود الاتفاق النووي، أو حتى الجلوس للبحث في البرنامج الصاروخي أو قضية التوسع الإقليمي التي تقض مضاجع العالم العربي. فهل يجازف الرئيس الأميركي بخلق أزمة نووية ثانية تستنفر الدول الكبرى وتفاقم قلقها على الاستقرار العالمي، وينجح بدفعها إلى المساهمة في تحويل الضغط على الاتفاق النووي لجر إيران إلى البحث في سياساتها التوسعية؟