Site icon IMLebanon

في الشهادة وصناعة الإرادة

 

ليس أمراً جديداً أن تنتهج إسرائيل القتل وارتكاب المجازر لممارسة الترويع وكسر الإرادة وتلويث الوعي وكيّه. وبعد أن فعلته في فلسطين، ها هي توغل به في لبنان، وهي تمنّي الوهم أن النّيل من قادة المقاومة وسيّدها ورجالها وبيئتها المجتمعيّة، سيفضي إلى الخضوع والاستسلام والمهان.

وهذا الفهم هو فهم خطأ، بل هو فهم قاصر عن وعي حقيقة الشهادة ومفاعيلها، وقدرتها على اصطناع وقائع ونتائج تخالف أمنيات البعض وأوهامهم من صهاينة الدّاخل والخارج.

هذا ويمكن مقاربة هذا الموضوع من أبعاد عدّة، تفضي إلى نتيجة مغايرة، مفادها أن الشّهادة تخلص إلى تخصيب الإرادة وتمتينها، وليس إلى كسرها أو وهنها:

1- في البعد النّظري: وهو ما نجده في الثّقافة المجتمعيّة ذات الصّلة، إذ تزدحم مجموعة كبيرة من المفاهيم والقيم، التي تعلي من شأن القتل في سبيل الله، ومكانة الشّهيد والشّهادة، ما يحيل الشّهيد إلى أيقونة تحفر في الوعي، فيضحي ملهماً للوجدان، ورمزاً للأجيال، وبطلاً قوميّاً يستهدي به أبناء الرّجال، عندما تهب الشّهادة من قداستها لنهج الشّهيد، وتمنحها لقضيّته، وتصبغ بها أهدافه ومدرسته. هنا تصبح القيمة المعنويّة لأهداف الشّهيد وقضيّته، بعد شهادته، أرقى بكثير ممّا كانت عليها في حياته، إذ لن يكون عندها ممكناً تجاوز تلك الأهداف، ولن يكون متاحاً خيانة القضيّة، بل سيكون لزاماً الوفاء لها، والوفاء لجسيم التضحيات التي بذلت من أجلها. ولن يكون، عندها، مقبولاً تعطيل النّهج أو إهمال المسار، فهذا طريق أضحى معبّداً بالدّماء، مُصدّقاً بالشّهداء، فلا يمكن للسّالك أن يتنكب عنه أو لا يستهدي معالمه. وعليه، إنّ التّضحيات تنتج الثّبات، وكلّما تجلّت التّضحيات أكثر، أضحى التّراجع عن الأهداف أصعب، والمقولة التي يردّدها النّاس، وتتناقلها الشّفاه: لا يمكن التّراجع بعد كلّ هذه التّضحيات؛ خير تعبير عن هذا الوعي، إذ سوف يستحيل التّراجع إلى خيانة واستسلام، وإلى فعل عبثي، وعود إلى زمن الذّلّ والقهر والهوان، وهو ما لا يستقيم مع وعي النّاس وقيمهم وإيمانهم.

وهنا كلّما كثر الشّهداء وعلت مواقعهم، سيكون مؤدى الشّهادة مزيداً من الوعي والثّبات، وعدم التّراجع، وتأكيد الالتزام والمسؤوليّة، واستمرار الصّمود، وإكمال المواجهة. هذا فضلاً عن الوجدان الدّيني الذي يرى في الاستسلام مذلّة، لا يصحّ التلبّس بها، أو قبول ارتدائها. يضاف إلى ما تقدّم فلسفة الثّأر من المجرمين والظّالمين، التي تدفع إلى مزيد من الثّبات والمواجهة، إذ إنّ أحد تجليّات هذا الثّأر وأوضحها، هو عدم تقديم أي نصر للمجرمين وظلمهم وتوحّشهم. ولا نغفل هنا عن قيم المواساة، وتحديداً في تقبّل الشّهادة وخوض غمارها، فعندما يستشهد كبار القوم وسادة المقاومة، سيكون الحاكم على من سواهم مقولة «على الدّنيا بعدكم العفا»، حيث ستتجلّى هذه المواساة في جميع ميادين المواجهة، صلابة في الموقف، وقوّة في الإرادة، وامتناعاً عن مغادرة الثّوابت، وبأساً شديداً في ساحة القتال. مع الإلفات إلى قيم الصّدق في «ما عاهدوا الله عليه»، إذ إنّ صدق الشّهداء في شهادتهم، سيؤول إلى سبق وقدوة، تدعو المنتظرين إلى انتهاج السّبيل نفسه للوصول إلى مرادهم، حيث الصّدق في الثّبات، والصّبر، والتّحمّل، والعزم، وعدم الوهن أو القبول بالخزي والمذلّة.

2- في البعد التّاريخي: لو عدنا إلى التّاريخ القريب في الصّراع مع الكيان الإسرائيلي، يطرح هذا السّؤال: هل أفضت شهادة قادة المقاومة في لبنان – وغير لبنان – إلى كسر إرادة المقاومة وشعبها؟ والجواب على قدر من الوضوح، إذ رغم التّضحيات الجسام، كانت المقاومة تتألّق أكثر، ويقوى عودها، وتشتدّ إرادتها. وعندما نأتي إلى الحروب المتكرّرة على لبنان – وآخرها عدوان تموز 2006 – ألم تكن المقاومة تخرج أقوى تصميماً وأشدّ عزيمة وأمضى نهجاً؟ وأيضاً في تجارب مشابهة، كما في العراق الشّقيق، فقد رأينا أنّ قوافل الشّهداء من العلماء والقادة وغيرهم كانت تفضي إلى شحن الإرادة، وتخصيب العزيمة، والثّبات على المواقف، وكذلك في تاريخ المقاومة الفلسطينيّة واغتيال الكثير من قادتها، هل أدى ذلك إلى تحقيق العدو الإسرائيلي لأهدافه ومراميه؟!

ولو عدنا إلى تاريخ أبعد يتّصل بكربلاء وثورة الحسين (ع)، ألم تتحوّل شهادة الحسين إلى ديناميات خلّاقة اجتماعيّة ودينيّة وسياسيّة ووجدانيّة وثقافيّة وغيرها، أنتجت من الوقائع ما لم يكن ممكناً بغيرها؟ وقد غدا من أهمّ إرث هذه الثّورة الحسينيّة ذلك الوعي والوجدان والقيم التي أضحت بمنزلة إكسير خلاق قادر على تحويل الشّهادة إلى سبب للنّصر، ومَخصَب للإرادة، وصلابة للعزيمة، وثبات على المواقف، واستعداد لأغلى التّضحيات، وتعالٍ في وعي التّحديات، يصنع منها سبيلاً إلى مزيد من العزّة والإباء.

3- في البعد العقلاني: إن السّماح للعدو الإسرائيلي بتكريس قواعده ينطوي على خطر كبير جدّاً، حيث إن القبول بكسر الإرادة، نتيجة انتهاج العدو لمزيد من القتل والتّدمير، يعني أنّنا سلّمنا بهذه المعادلة، ما يتيح للعدو استخدامها معنا بشكل أقسى، كلما رأى مصلحة له في استخدامها، أو داعياً إلى فرض شروطه علينا. في المقابل، عندما نُفشل هذه المعادلة بالصّبر والثبات، فهو ما سوف ينتزع من العدو هذه الأداة، أو بالحدّ الأدنى سوف يضعف من توظيفها. وخصوصاً عندما أخذت المقاومة تؤلم كيانه وجيشه بشكل أقوى وأشدّ، يوماً بعد يوم، وأصبحت المعركة أشبه ما تكون بمعركة عضّ أصابع ينهزم فيها من يصرخ أولاً، فهل سيكون من الحكمة عندها أن نمنح العدو نصراً سيعمد هو وغيره إلى استغلاله أخبث استغلال، وفي أكثر من ميدان، وخصوصاً إن كان الحؤول دون نصره صبر ساعة، وأنّ ثمن الثّبات والصّمود – مهما عظم – أقلّ من ثمن الهزيمة والاستسلام والقبول بشروطه.

4- في الوقائع والمعطيات القائمة: نحن أمام مقاومة قوية في بنيتها، خلّاقة في إدارتها، ولّادة لقادتها، ذات تاريخ مديد وبأس شديد، ويقين بالنّصر وأن شرطه الصّدق في الثّبات والصّبر والشّهادة والتّضحيات، تؤمن بعدالة قضيّتها، وبالحقّ في نهجها، وأنّ قتالها من أقدس أقداس دنياها، وأنّه ليرقى على سفاسف الدّنيا، ومن أسمى ما تُطلب به الآخرة، وأنّها تشحذ عزيمتها من إرث كربلاء: صلابةً وثباتاً وقوّةً وإرادة، وأنّ شعبها يؤمن بها، ويحتضن نهجها، ويعتقد قضيتها، ويقف معها، كما وقفت معه، وأنّه يعطيها من أغلى ما لديه، كما أعطته من أغلى ما لديها، وأنّه لن يرتضي لها كسراً أو هواناً أو استسلاماً، كما صنعت له عزّاً وكرامةً ونصراً ووعداً به. يضاف إليه قرار كبير وإستراتيجي على مستوى الشّعوب الحرّة والعزيزة في المنطقة ومقاومتها مفاده: من غير المقبول على الإطلاق كسر المقاومة في لبنان، مهما كانت النتائج أو غلت التضحيات. وما على المرجفين، من وسائل إعلام بعض أنظمة الخليج الشريكة مع العدو الإسرائيلي في عدوانه ومن صهاينة الداخل، إلا أن ينسجوا خيوطاً من وهم، وباطلاً من قول، إذ سيُظهر قادم الأيام خطل إرجافهم، وقبح جرمهم، في إعانة العدو على مكره وكيده، وشراكتهم معه في العدوان والإجرام.

5- في الواقع الميداني في المعركة الحاليّة؛ ومع هذا القدر الكبير من التّضحيات، يطرح السّؤال: هل أمكن للعدو الإسرائيلي أن يكسر إرادة المقاومة؟ والجواب ما تفصح عنه الوقائع الميدانيّة، فقد يصحّ القول إن المقاومة استطاعت أن تمتص مجمل تلك الإصابات، وأن تعمل في المقابل على استدراج العدو إلى معركة استنزاف برّيّة، وفي جبهته الدّاخليّة، بشكل أساسي، إذ سيفضي هذا المسار إلى ثلاث وقائع: الأولى خسائر بشرية كبيرة للعدو في جنوده وآلياته، الثّانية شلل في الداخل الإسرائيلي تتسع رقعته يوماً فيوم، الثّالثة انسداد في طموحه إلى كسر إرادة المقاومة؛ وهو ما سوف يؤدّي إلى الخروج بنتيجة يرتضيها لبنان وشعبه ومقاومته، حيث سيبين – وهو ما لا يفهمه العدو – أنّ الإيغال في القتل والتّدمير، لم يفضِ إلّا إلى نتيجة عكسيّة، إذ إن عظيم التضحيات قد أوقد في بيئة المقاومة إرادة التّحدي، التي تنطوي على ثابتين: لن نهزم، ولن نستسلم، وسيظهر للعيان، ومع التّقدير لمجمل العوامل الأخرى، أنّ فعل الشّهادة كان له دور أساسي، وأنّه قد وهب الموقف قوة وصلابة، وأنه كان أدعى إلى الثّبات، وأنّه – بخلاف ما يرغب العدوّ – سيؤول إلى مدرسة تلهم الأجيال وتنشئ المقاومين، وترفد النهج، وتهدي المسيرة، ما يعني أنها – ولو مع بعض الزّمن – ستكون أشدّ خطراً على الكيان من ذي قبل.