Site icon IMLebanon

هل ينجح ترامب في تطويع إيران و… الآخرين؟

 

الإدارة الأميــركية لا تريد حرباً جديدة في المنطقة. واعتمادها العقوبات سلاحاً خيارٌ تاريخي قديم. وشمل كثيراً من البلدان حول العالم منذ خمســينات القرن الماضي. وكان دائماً الأقل كلفة مقارنة بالخيار العسكري. ولم يكن دائماً أداة ناجعة في كثير من الحالات. لكن الرئيس دونالد ترامب يؤمن اليـــوم بأنــه كان وراء دفع إيران إلى طاولة المفاوضات أيام سلفه باراك أوباما، وتوقيعها الاتفــاق النووي قبل ثلاث ســـنوات. ويعتقد بأن تشديد الحصار عليها سيدفعها إلى الطاولة مجدداً لإعادة النظر في هذا الاتــفاق وملفات أخرى بينها البرنامج الصاروخي الباليستي وسياسة التدخل في عدد من الدول، من أفغانستان وباكستان إلى دول الشرق الأوسط… غير أن ما يفوت إدارته أن سلفه وفر شبكة تعاون دولية وإقــليمية فاعلة، وكان لمجلس الأمن دور كبير في تبني حزم من العقوبات على الجمهورية الإسلامية أدت إلى عزلها عزلة خانقة. وخلفت آثاراً قاســية على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي. وهو ما دفعها إلى الجلوس مع الدول الخمس الكبرى وألمانيا. ما لم يفت سيد البيت الأبيض أن طهران انتزعت في المقابل تنازلاً كبيراً من واشنطن بإبعاد ملفات أخرى شائكة إقليمية وعسكرية من الطاولة. وكان رهان أوباما وشركائه أن إعادتها إلى المجتمع الدولي ستـــخلق دينامية جديدة تدفعها إلى تغيير في سلوكها وســياساتها وبرامجها. لكن ما حصل كان خلاف ذلك. واصلت استراتيجيتها الخارجية بنشاط أكبر مــستندة إلى ما وفر لها رفع الحصار من عائدات، خصوصاً من تصدير الطاقة. وبلغت هذه العائدات السنة الماضية نحو خمسين مليار دولار.

 

 

الواقع أن ترامب انتشى بأن سياسة التلويح بالقوة أثمرت مع كوريا الشمالية. وأن الأمر يمكن أن يتكرر مع إيران. لكن ثمة فوارق بين الحالتين. في بيونغيانغ رجل واحد يمسك بكل القرارات، بخلاف الوضع في طهران، حيث تتنازع القرار مراكز قوى مختلفة، وإن بدا أن القول الفصل معقود للمرشد الأعلى علي خامنئي. ولا يمكن أن يكون غاب عن باله أن الصين لعبت دوراً كبيراً في دفع الزعيم كيم جونغ أون إلى قمة سنغافورة. علماً أنها كانت وفرت له كل الإمدادات المطلوبة للتخفيف من وطأة العقوبات على بلاده، كلما اقتضت ذلك ضرورات التفاوض بينها وبين الإدارات الأميركية السابقة في شأن التجارة الحرة وقضية سياستها التوسعية في المحيط الهادئ وبحر الصين وغير ذلك من ملفات. والأمر ذاته مارسته هي وموسكو حيال طهران كلما ارتفعت وتيرة التوتر بينها وبين واشنطن. لقد استثمرت العاصمتان الكثير في الورقة الإيرانية، أثناء المفاوضات النووية وقبلها. وأياً كانت هذه الاعتبارات، فإن الظروف اليوم تبدلت. ويكاد الرئيس ترامب يقف وحده في معسكر والآخرون في معسكر مقابل. والآخرون الصين وروسيا والاتحاد الأوروبي وقوى أخرى كثيرة. سياسة الحمائية التي اتبعها لم تكن الوقود الوحيد لحرب اقتصادية مع الشرق والقارة العجوز، حتى جاءت العقوبات الاقتصادية على إيران لتؤجج هذه الحرب. وزاد الطين بلة أن إدارته فرضت وتفرض في الوقت عينه عقوبات على تركيا وروسيا، وتهدد بمزيد من الرسوم على البضائع والواردات من الصين.

 

لذا، لا تبدو إيران وحدها في الخندق المقابل. لكنها ملزمة بالرد على التحدي وتحديد خياراتها: هل ترضخ تحت ضغط العقوبات والاضطرابات المتجددة بين حين وآخر احتجاجاً على الأوضاع الداخلية المتردية، وتعطي سيد البيت الأبيض ما يريد سريعاً ليستثمر عشية الانتخابات ويعزز حظوظ حزبه وحلمه في التجديد لولاية ثانية؟ أم تنتظر إلى ما بعد هذه الانتخابات وربما حتى إنهاء أو نهاية ولاية الرئيس ترامب ما دام الجمهوريون مهددين في هذا الاستحقاق؟ هي تلجأ الآن إلى التلويح بالرد القاسي إذا وجدت نفسها عاجزة عن تصدير نفطها وغازها بعد الرابع من تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل. تهدد بإغلاق مضيق هرمز الذي يمد العالم بنحو ربع الطاقة التي يحتاج إليها. لكنها تدرك أن اللجوء إلى مثل هذا الخطاب يخدم الساسة الأميركيين الذين يتهمونها برعاية الإرهاب والخروج على الأعراف الدولية. علماً أن الدول الكبرى التي تحاول الوقوف في وجه سياسة غريمها قد لا تسمح لها بمثل هذه المغامرة المدمرة للصناعة العالمية. كما أنها ليست مقتنعة بالصورة التي تقدمها الجمهورية الإسلامية عن نفسها كقوة دولية أو إقليمية ضاربة. مثل هذا التضخيم لم يترجم مثلاً في صد الغارات شبه اليومية التي تشنها إسرائيل على مواقع بعض قواتها وحلفائها في سورية. لذلك، قد يندرج تبادل خطاب القوة بينها وبين الولايات المتحدة في باب حفظ ماء الوجه عندما يحين موعد الجلوس إلى طاولة التفاوض مجدداً. وقد رصدت الدوائر حركة الرئيس حسن روحاني في زيارته قبل أسابيع النمسا وسويسرا التي ترعى المصالح الأميركية في طهران ووضعتها في خانة جس النبض لإمكان حوار مع واشنطن. وهو لم يغلق الباب أمام مثل هذا الاحتمال إذا صفت نيات أميركا، على رغم أنه قد يتردد حيال الخطاب المتناقض للرئيس ترامب الذي من جهة يلوح بالقوة، ومن الجهة الأخرى يعرض الاستعداد لحوار بلا شروط. علماً أنه الخطاب ذاته الذي استخدمه مع كوريا الشمالية. ويترقب بعضهم دوراً نشطاً لسلطنة عمان شبيهاً بدورها في رعاية لقاءات أميركية – إيرانية ساهمت في تقريب وجهات النظر وسهلت إبرام الاتفاق النووي.

 

إيران ليست وحيدة في الخندق المقابل. لكنها ليست مقتنعة بأن الدول الأخرى الموقعة الاتفاق النووي قادرة على توفير مظلة حماية اقتصادية لها وتعويضها ما ستخسر وما بدأت تخسر في الأسواق الدولية والغربية منها خصوصاً. القطاعات المصرفية والصناعية والتجارية الأوروبية لن تختار في نهاية المطاف بينها وبين الولايات المتحدة. حجم التبادل التجاري بين القارة العجوز والمقلب الثاني من الأطلسي تفوق تريليون دولار في السنة بينما حجم تبادلها مع الجمهورية الإسلامية لا يتجاوز حتى الآن خمسة عشر مليار دولار. كما أن روسيا تواجه مثلها عقوبات منذ أزمة أوكرانيا، وفرضت عليها الولايات المتحدة قبل أيام رزمة جديدة من العقوبات بعد تحميلها مسؤولية استخدام مواد كيماوية في محاولة اغتيال الضابط السابق في استخباراتها سيرغي سكريبال المقيم مع ابنته في بريطانيا. ويعاني الروبل من تراج كبير حيال الدولار تماماً كما هي حال الريال الإيراني. فضلاً عن ارتفاع نسبة التضخم. وثمة من بدأ يعلي الصوت في موسكو بأن على الرئيس فلاديمير بوتين أن يوقف «حروبه الخارجية» ويلتفت إلى الأوضاع الداخلية والاقتصاد الذي يساوي بحجمه اقتصاد أي دولة أوروبية كبرى. وكيف لهذا الاقتصاد أن يواجه الولايات المتحدة التي تستعد لبناء قوة فضائية بحلول عام 2020 في استعادة ما سمي أيام رونالد ريغان «حرب النجوم»؟ وحتى الصين التي، وإن بدت حريصة على مبادلاتها التجارية مع إيران، لن تتردد في المساومة مع إدارة ترامب، كما فعلت في شبه الجزيرة الكورية. ولا يساور طهران أي شك في أن موسكو وبكين لا تترددان، كما فعلتا قبل الاتفاق النووي، في استخدام علاقاتهما بها على طاولة المساومات مع أميركا مع الغرب عموماً.

 

حتى الرهان على تمتين التعاون بين طهران وموسكو وأنقرة قد لا يكفي لرفع التحدي. فتركيا التي بدأ اقتصادها وليرتها يهتزان على وقع العقوبات الأميركية ومضاعفة الرسوم على صادراتها من الصلب والألومنيوم. ولم يجد المسؤولون في حكومة رجب طيب أردوغان أخيراً سوى مناشدة الرئيس ترامب إعادة التفاوض لتسوية المشكلات القائمة بين البلدين. لكن سيد البيت الأبيض الذي رفض توسلات أوروبا لإعفاء شركاتها المتعاملة مع الجمهورية الإسلامية، لن يتهاون مع الحكومة التركية التي قد لا تجد مفراً من الارتماء أكثر فأكثر في التحالف القائم بينها وبين موسكو وطهران. وكان وزير خارجيتها مولود جاويش أوغلو أعلن صراحة أن بلاده لن تلتزم بالعقوبات الأميركية. وهي تبدو غير قادرة على ذلك، إذ إنها تستورد ما يربو على استهلاكها من الطاقة من الجمهورية الإسلامية. وقد لا تستسيغ الاستيراد من السعودية أو الإمارات وهي على خلاف سياسي كبير مع هاتين الدولتين.

 

خصوم الرئيس ترامب وعلى رأسهم إيران أمام خيارات مصيرية. فهل ينجح المتضررون من قرارات واشنطن في إقامة محور ثلاثي مناهض من موسكو وأنقرة وطهران لا تكون بكين بعيدة منه، فيما يقف بعض أوروبا على الحياد؟ أم هل تنجح الوساطات والمساعي في جمع الرئيسين ترامب وروحاني قبل أن تنزلق المنطقة إلى مزيد من التوتر والصراع المذهبي بمزيد من التفاف أهل الشيعة في الإقليم حول الجمهورية الإسلامية؟ المؤشرات إلى انصراف المتخاصمين إلى الخيار الديبلوماسي تجب مراقبتها في أكثر من ساحة: من سورية والعراق إلى لبنان وغزة و… اليمن.