كان شهر آذار (مارس) الذي حمل شؤماً تاريخياً بعد مقتل الإمبراطور يوليوس قيصر في 15 آذار سنة 44 ق.م. يمثل مرحلة بالغة الصعوبة بالنسبة الى القوى الإقليمية والدولية.
وبما أن ذهنية الرئيس الأميركي دونالد ترامب تخضع دائماً لمعايير رجل الأعمال في صفقات الربح والخسارة، فإن سياسته الشرق أوسطية بدأت تتضح معالمها في ضوء اختيار طاقم إدارته.
ومن أجل إخضاع قراراته السياسية الى قوة تنفيذية محترفة، انتقى عسكريين للعب هذا الدور الخطير. ومن أبرز انتقاءاته في هذا المجال كان وزير الدفاع الجنرال جيمس ماتيس، ووزير الأمن الداخلي الجنرال جون كيلي، ومستشار الأمن القومي الجنرال هيربرت ماكماستر.
وزير الدفاع الجديد (66 سنة) هو جنرال متقاعد، سبق أن قاد كتيبة المارينز خلال حرب الخليج الأولى، كما قاد فرقة من مشاة البحرية أثناء غزو العراق. وفي سنة 2010 عينته وزارة الدفاع رئيساً للقيادة الأميركية المركزية التي تشمل كل منطقة الشرق الأوسط بما فيها أفغانستان.
وواضح من الاتصالات الهاتفية التي أجراها ترامب مع العاهل السعودي الملك سلمان بن عبدالعزيز وولي عهد أبو ظبي الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، أن الرئيس الأميركي الجديد عازم على إحياء علاقات الصداقة مع دول الخليج العربي. لذلك وظـّف الوزير الجنرال ماتيس مبادرة رئيسه من أجل الاتصال بولي ولي العهد السعودي ووزير الدفاع الأمير محمد بن سلمان، والتنسيق معه على برنامج بدأ بمناورة قوات بحرية مشتركة… وانتهى بزيارة رسمية للبيت الأبيض يوم الثلثاء الماضي.
وفي لقاء عمل موسع، عرض الأمير محمد بن سلمان أمام الرئيس ترامب وفريقه رؤيته للحروب المستعرة في اليمن وسورية والعراق وليبيا، منبهاً الى خطورة الاتفاق الذي عقده الرئيس السابق باراك أوباما مع طهران، الأمر الذي شكل تهديداً متواصلاً للاستقرار والأمن في الشرق الأوسط.
ورأت طهران في التغيير الذي طرأ داخل البيت الأبيض تراجعاً عن مختلف التعهدات التي قدمتها الإدارة السابقة الى وزير الخارجية محمد جواد ظريف. لذلك قرر المرشد الأعلى علي خامنئي امتحان إرادة ترامب عبر عمل عسكري نفذه «الحرس الثوري» على تجربة صاروخ يُسمى «خرم شهر». وهو صاروخ معدّل لصاروخ «عماد»، مع قوة دفع يصل مداها الى أكثر من ثلاثة آلاف كيلومتر. وأحدثت التجربة قلقاً مدوياً في الدول الغربية، خصوصاً أن الصاروخ يستطيع إصابة أهداف في العواصم الأوروبية، وأن تطويره لحمل رأس نووي يشكل استفزازاً لدول الحلف الأطلسي، إضافة الى دول الخليج العربي.
إيران أنكرت أن يكون الاتفاق الذي وقّعه وزير خارجيتها محمد جواد ظريف يحتوي على بند ينص على موضوع الصواريخ الباليستية. والسبب أن طهران ألغت برنامج إنتاج سلاح نووي. إذاً، ليست هناك حاجة الى صاروخ يحمل قنبلة نووية. ولكن هذا العذر لم يقنع الإدارة الأميركية التي أثارت نقاشاً حاداً في مجلس الأمن. كما لم يقنع رئيس حكومة إسرائيل بنيامين نتانياهو الذي سافر الى موسكو لبحث سلسلة مخاوف تتعلق بمستقبل إيران في سورية.
وقالت الصحف الإسرائيلية إن نتانياهو استعرض مع الرئيس فلاديمير بوتين عدة احتمالات تتعلق بسيطرة إيران في سورية. وتوقع أن تخرج بمكاسب جمة عقب الانتصار على «داعش» بفضل المقاتلين التابعين لإمرتها، سواء جيش إيران النظامي و «الحرس الثوري»، أو مقاتلي «حزب الله». وذكرت هذه الصحف أيضاً أن نتانياهو أعرب أمام بوتين عن اضطراره للانزلاق نحو حرب مفاجئة في حال نفذت إيران وعودها بإقامة قاعدة بحرية دائمة في ميناء طرطوس، أو في حال استعد «الحرس الثوري» مع «حزب الله» لاستعادة هضبة الجولان السورية. وذكر في معرض الشكوى أمام سيد الكرملين أن طهران أشرفت على تشكيل ميليشيا شيعية عراقية باسم «النجباء»، أعلن قائدها أن كتيبته معدة خصيصاً لتحرير الجولان.
في أحاديث أدلى بها خبراء روس شبه إجماع على أن بوتين متمسك بتحالف المصالح مع إيران، وأنه يسعى الى ضمان سيطرة بشار الأسد على سورية، أو على أجزاء كبيرة من سورية. ويبدو أن بوتين لم يعد بالتدخل لحماية الأمن الإسرائيلي، ولكنه وعد بغض النظر عن المخالفات التي تقوم بها إسرائيل لحماية مصالحها. وهذا ما حدث في السابق حول الضربات المنسوبة الى إسرائيل في الأراضي السورية ضد قوافل السلاح الإيراني المرسل الى «حزب الله».
يقول بعض المحللين إن نتائج معركة تحرير الرقة، عاصمة «داعش» في شرق سورية، ستؤثر في مصير الوجود الإيراني وطريقة انتشاره. وهم يربطون تقديراتهم بالقوى التي ستنجح في استرداد الرقة. هل هي قوى تركية بمعاونة معارضين سوريين سنّة، أم قوى كردية تعتمد على القوات الأميركية لاستعادة المدينة. ففي حال حدوث هذا الأمر فإن النتيجة ستؤدي الى إنشاء حاجز بين شيعة العراق وبين سورية التي يسيطر عليها بشار الأسد. ولكن في حال نجحت قوات بشار الأسد والمحاربون الإيرانيون في إخضاع الرقة لنفوذها، فإن إيران عند ذلك تستطيع إنشاء ممر بري يبدأ في طهران، ويمر في العراق ويمتد نحو شرق سورية… الى أن يصل الى دمشق ومن ثم لبنان. وهذا معناه تحقيق «الهلال الشيعي»!
العسكريون الذين يرسمون سياسة ترامب الخارجية يعرفون جيداً أن قوة إيران الإقليمية ناتجة من توظيف «أذرعها السياسية» في المنطقة. فهي تستعمل الحوثيين في اليمن للضغط على السعودية. وتستخدم «حزب الله» في لبنان كرافعة لتهديد إسرائيل. ولكنها في الوقت ذاته تربك الجيش النظامي وتمنع قيادته من اتخاذ أي قرار مستقل. وكان من الطبيعي أن يؤثر هذا الانفصام السياسي في دور لبنان العروبي، إذ إنه عرّض الدولة لانشطار دائم حول خوفها من ارتكاب أي خطأ تجاه «حزب الله» وإيران…. وبين انحيازها المشكوك في صدقيته تجاه مبادئ الجامعة العربية ومجلس التعاون الخليجي. وهذا ما يربك الرئيس ميشال عون، ويحرج موقفه داخل القمة العربية المقبلة التي ستعقد في عمان آخر الشهر الجاري.
وما ينطبق على اليمن ولبنان، ينطبق على سورية المرتهنة لإيران منذ اندلاع ثورة الخميني. ومن المؤكد أن هذا الوضع الانشطاري يسري على حركتي «حماس» و «الجهاد الإسلامي».
وقد ظهر هذا التباين في المواقف عقب استقبال رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس للموفد الأميركي جيسون غرينبلات، على أمل تحريك عملية السلام المجمدة منذ سنة 2014. وصدر عن رام الله بيان يقول إن أبو مازن قد يلتقي ترامب قبل انعقاد القمة العربية في الأردن آخر هذا الشهر. لذلك أرسل عباس رئيس أجهزة استخباراته ماجد فرج الى واشنطن، بهدف استكشاف الخطة الأميركية قبل التورط في التودد للسفير الأميركي ديفيد فريدمان، الملقب بسفير إسرائيل في إسرائيل!
ويتخوف عباس من احتمال طرح مسألة نقل سفارة أميركا من تل أبيب الى القدس، وفاء لتعهد ترامب خلال حملته الانتخابية. وقد استعد للدفاع عن قناعاته بالقول إن نقل السفارة الى القدس يعني اعتراف أميركا بأن القدس الموحدة هي عاصمة إسرائيل. ولكن لم يخطر بباله أن ترامب أعد له مفاجأة مفادها: نقل سفارة أميركا الى القدس الغربية مقابل نقل الممثلية الأميركية لدى فلسطين الى القدس الشرقية. ومثل هذا التوازن يمكن أن يصبح مقدمة لإنشاء «قدس كبرى» مع بلدية مشتركة للفريقين.
كتبت صحيفة «نيويورك تايمز» تقول إن العسكريين الثلاثة داخل الإدارة الأميركية أقنعوا الرئيس دونالد ترامب بأن الموقف السلبي الذي اتخذه سلفه اوباما طوال ثماني سنوات أعطى إيران الفرصة لتقوية «أذرعها» الممتدة من اليمن حتى لبنان. وقدموا له خطة عسكرية تبعد المواجهة مع إيران لأسباب اقتصادية، ولكنها تركز على ضرب «داعش» و «القاعدة» في أي مكان.
والثابت أن تنظيم «القاعدة» كان يتهيأ خلال الشهرين الماضيين لملء الفراغ السياسي والأمني الذي سيحدثه طرد تنظيم «داعش» من العراق وسورية والبلدان الأخرى. وكان قائد فرع اليمن قاسم الريمي – وكيل زعيم «القاعدة» في جزيرة العرب – قد تحدث باسم وريث أسامة بن لادن أيمن الظواهري، معلناً اليمن قاعدة متقدمة للنضال ضد أميركا وحلفائها.
لهذه الأسباب وسواها باشرت القوات الأميركية عملية تقليم أذرع الإرهاب عندما شنت عشرين غارة على مواقع في محافظات أبين والبيضاء وشبوة. وأكد التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة ضد «داعش» نشر قوات أميركية إضافية في سورية قبل الهجوم على الرقة. وتضم هذه القوة أربعمئة جندي التحقوا برفاق آخرين يبلغ عددهم خمسمئة يشكلون وحدة من مشاة البحرية.
والغرض من كل هذا – كما تُجمع الصحف الأميركية – ليس أكثر من تأكيد يحرص الرئيس ترامب على إبرازه أمام الرأي العام، أنه يريد الظهور بمظهر رئيس مخالف لنهج سلفه اوباما الذي رفض إصدار قرار يقضي بمشاركة قواته في أي قتال على أرض الشرق الأوسط.
وفي هذا السياق، يرتفع سؤال مهم يتعلق بالمدى السياسي المطلوب في حرب أميركا ضد «وكلاء» إيران في المنطقة. وهل يمكن أن تتورط القيادة العسكرية الأميركية في حرب مفتوحة مع الدولة المساندة لخصومها في المنطقة؟
على رغم التصنيف الذي أعلنه ترامب لمواطني ست دول إسلامية بينها إيران، إلا أن هذا القرار لم يمنعه من الموافقة على استكمال تصنيع ثمانين طائرة مدنية من طراز «بوينغ» كانت طهران قد اشترتها عقب رفع العقوبات الدولية عنها السنة الماضية. ومعنى هذا أن المصالح الإيرانية في نظر ترامب لا تخضع لتصنيف الممانعة، كونه يقيس الأمور بمقياس الربح والخسارة.
ولكن سلوك الإدارة الأميركية الجديدة مع إيران لا يطمئن «حزب الله» الى معاملة مماثلة، خصوصاً بعدما تأكدت إسرائيل من أن مرتفعات الجولان ستكون مادة مقايضة قبل رسم الخطوط النهائية لمنطقة الشرق الأوسط بعد سقوط «دولة داعش»!