منذ نحو عام، عندما أعلن فريق العمل المؤقت المعاون لترمب للمرة الأولى عزمهم نقل السفارة الأميركية إلى القدس، ساورتني الشكوك إزاء ذلك. ومثلما الحال مع معظم المسؤولين داخل المؤسسة المعنية بالسياسة الخارجية، ناهيك بالحلفاء العرب والأوروبيين لأميركا، اعتقدت أن مثل هذه الخطوة تنطوي على مخاطرة بالغة.
اليوم، ستجد هذه الحجة مطروحة بقوة؛ فكثيرون يدفعون بأن إسرائيل بحاجة إلى مساعدة الولايات المتحدة لها في تعزيز علاقاتها الناشئة مع دول عربية كانت عدواً لها ذات يوم، فلماذا إذن تقدم واشنطن اليوم على خلق توتر في هذه العلاقات باتخاذها هذه الخطوة؟
من جانبي، غيرت رأيي بهذا الخصوص لعدد من الأسباب؛ أولها أن هذه الأصوات ظهرت مباشرة في أعقاب إقدام الإدارة السابقة على اتخاذ سابقة والامتناع عن التصويت على قرار صادر عن مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة ينص على أن القدس الشرقية بأكملها تشكل فعلياً أرضاً محتلة، الأمر الذي يعني أن أي نشاطات بناء إسرائيلية داخل المنطقة المتنازع حولها تعد خرقاً للقانون الدولي. وعليه، فإن هدية الوداع تلك التي قدمها باراك أوباما للفلسطينيين جعلت الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل أمراً أكثر إلحاحاً.
إلا أن ما دفعني نحو تغيير رأيي فعلياً ما حدث هذا الصيف: فتحت مجموعة من عرب إسرائيل النار قرب المسجد القائم أعلى جبل صهيون؛ المنطقة التي تحوي بقايا الجدار الخارجي للمعبد اليهودي الثاني في قاعدتها، والمسجد الأقصى في الجزء الأعلى منها. وانطلقت مجموعة من المسلحين قرب المسجد وفتحت النار على ضباط شرطة إسرائيليين من داخل الحرم المقدس.
أما ما تلا ذلك، فكان مأساوياً ومتناقضاً، ففي الوقت الذي أدان فيه الزعيم الفلسطيني محمود عباس الإرهابيين، فإن «حركة فتح» التي يتزعمها دعت إلى «أيام من الغضب». هل كان ذلك رداً على فتح مسلحين النار باتجاه المسجد الأقصى؟ لا، وإنما لأن السلطات الإسرائيلية سعت لوضع أجهزة كشف عن المعادن داخل حرم المسجد الأقصى في أعقاب حادث إطلاق النار المروع. وجاء ذلك في أعقاب عثور الشرطة الإسرائيلية على أسلحة مخزنة داخل المجمع الذي يضم المسجد.
وتتمثل السبيل التقليدية في النظر إلى هذه الأحداث في أنها دليل على حساسية قضية القدس وإمكانية اشتعالها في أي لحظة. وقد بدأ الفلسطينيون داخل غزة بالفعل «أياماً من الغضب» اعتراضاً على قرار ترمب. ووصفت منظمة التعاون الإسلامي خطة ترمب للاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل بأنها «عدوان فاحش». كما حذرت وزارة الخارجية الأميركية من أن هذا الاعتراف سيثير موجة من أعمال العنف.
بيد أن الحياد الأميركي الرسمي إزاء القدس لم يمنع القيادات الفلسطينية من الاعتراض من قبل. في الواقع، لقد خلق هذا الحياد مخاطرة أخلاقية.
ودعونا ننظر إلى الظروف التي أدت إلى اشتعال «الانتفاضة الثانية» عام 2000. كان المبرر الرسمي زيارة أرييل شارون، قبل انتخابه رئيساً للوزراء، الحرم القدسي. إلا أن هذه لم تعد ذريعة. ومثلما وثقت «باليستنيان ميديا ووتش»، فإن ياسر عرفات، الزعيم الفلسطيني الراحل، كان قد أعد العدة للانتفاضة الثانية بالفعل، بعد انهيار الجولة الأولى من مفاوضات أوسلو تحت رعاية الرئيس بيل كلينتون، قبل زيارة شارون الحرم القدسي بأسابيع. ومن جهته، صرح وزير الإعلام السابق بالسلطة الفلسطينية، عماد فالوجي، بحديث غير معلن في ديسمبر (كانون الأول) 2000 بأن «أي شخص يظن أن الانتفاضة اشتعلت بسبب زيارة شارون المقيتة للمسجد الأقصى خاطئ؛ هذه كانت مجرد القشة التي قصمت ظهر الصبر الفلسطيني. أما الانتفاضة فكان مخططاً لها منذ عودة الرئيس من المحادثات الأخيرة في كامب ديفيد».
وماذا عن رد الفعل الأميركي حيال كل ذلك؟ خلال الأشهر الأخيرة لكلينتون في الرئاسة، تمثل الخطاب الأميركي الرسمي في ضرورة عمل الطرفين على تخفيف حدة التوترات بينهما، في خضم مساعي كلينتون الحثيثة لإعادة إطلاق مفاوضات السلام المنهارة.
وفي ظل خليفة كلينتون، جورج بوش الابن، ظل الوضع كما هو تقريباً. ولم يطرأ تغيير سوى عام 2002 عندما اكتشفت واشنطن شحنة أسلحة من إيران إلى السلطة الفلسطينية، ما دفع بوش لاتخاذ قرار بمقاطعة عرفات والدعوة لعقد انتخابات جديدة. بيد أن ذلك لم يمنع إدارة بوش من الاستمرار في العمل على دفع عجلة عملية السلام. في العام ذاته، أصبح بوش أول رئيس أميركي يدعو لقيام دولة فلسطينية مستقلة.
بيد أن ما سبق لا يعني أن الفلسطينيين ليست لديهم مظالم حقيقية؛ في الواقع، لديهم مظالم بالفعل، منها أنهم لا يزالون يعيشون قيد الاحتلال داخل الضفة الغربية والحصار في غزة. كما تحتجز إسرائيل الآلاف داخل سجون عسكرية حيث لا يحظون بمحاكمات عادلة. كما أن القيود المفروضة على الحركة ونقاط التفتيش تجعل الحياة اليومية عبئاً لا يحتمل. إلا أنه يوضح أن الحساسية الغربية إزاء القدس مكنت القيادات الفلسطينية من تلغيم القضية وتحويلها إلى سلاح. ويتعرض الفلسطينيون يومياً لدعايات مستمرة حول الأخطار التي تتهدد القدس. وحتى عباس، الذي أصدر تعليماته بالتعاون مع الجيش الإسرائيلي في الضفة الغربية، ألقى خطابات حذر خلالها من خطط يهودية لتغيير هوية الأقصى والقدس. وفي تلك الأثناء، استمر القادة الغربيون في إطلاق الدعوات للجانبين للتفاوض.
وهنا تحديداً يكمن الخطر الحقيقي وراء التشبث بالحيادية في التعامل مع القدس: إنه يغذي وهماً فلسطينياً يقوم على أنه عبر التحلي بالصبر والغضب اللازمين، سيأتي يوم يجري فيه إجلاء اليهود عن عاصمتهم الأبدية. الحقيقة أن هذا لن يحدث. ومع ازدياد أعداد الدول العربية التي تعتمد على إسرائيل في الحرب الإقليمية ضد إيران ووكلائها، ستصبح هذه الحقيقة أكثر جلاءً أمام باقي المنطقة.
في عهد سلف ترمب، اعتاد مساعدو أوباما القول إنهم يتعاملون مع إسرائيل من مبدأ الحب القاسي، مؤكدين أن الصديق الحقيقي لن يسمح للإسرائيليين بالمضي في توسيع رقعة المستوطنات بينما هناك حاجة في نهاية الأمر لإقرار حل يقوم على الدولتين. في المقابل، يفعل ترمب شيئاً مشابهاً مع الفلسطينيين، فالصديق الحقيقي لن يسمح للقيادات الفلسطينية بالاستمرار في إطلاق وعود بتحرير مدينة تمثل عاصمة شريكهم في السلام. وعليه، فإن هذا الحديث المباشر من جانب الإدارة الأميركية ينبغي ألا يشكل نهاية محادثات السلام، وإنما بدايتها.
* بالاتفاق مع «بلومبيرغ»