في أدبيات المقاومة التي تسكن نفوس المجاهدين شعار تعبوي لا يفارقهم، له بعده الإنساني غير القابل للتأويل، وخصوصاً عندما يتعلق الأمر بكرامة الإنسان وحقه، وهو شعار «هيهات منا الذلة». ومن يرفع هذا الشعار، سواء كان ثائراً عارفاً طريقه أو محتجّاً ولو مضلّلاً، هو إنسان حقيقي. يمتلك كل عناصر الإنسانية غير القابلة للطعن. وعندما يسكن شعار رفض الذل قلب إنسان ونفسه، فإن السردية الدينية تقول إن الله ينتزع من قلبه مهابة خصومه وأعدائه، ويزرع مهابته في قلوبهم. حتى إذا مضى حتى النهاية في الدفاع عن حقه، فاز بإحدى الحسنيين: الشهادة أو النصر!
هذا ما يعرفه الناس من البيئة اللصيقة بالمقاومة، أو البيئة الأوسع التي تعرفت عن قرب الى المقاومة، او حتى البيئة المعادية التي تحاول فهم دوافع المقاومين. حتى من رفع نفسه فوق قامة البشر والناس، يسعى إلى فهم الأمر ولو من زاوية سعيه الى هزم هذا المقاوم.
وظيفة هذه المقدمة ليست شرحاً في درس لسنا من أساتذته، لكنها دليل الى قياس البعد الإنساني في مقاربة خصوم المقاومة السياسيين، الحقيقيون منهم أو المضلّلون. ومناسبة الحديث كيفية تعامل بعض أفراد المقاومة وبعض بيئتها مع أشخاص طبيعيين قرّروا، عن وعي، ولو مع نقص في معرفة المعطيات المحيطة ببلدهم، أن يرفعوا سقف اعتراضهم على الظلم اللاحق بهم، إلى حدّ الصراخ احتجاجاً. ووجدوا في آليات الاعتراض المتعارف عليها طريقتهم لقول ما يريدون قوله، في حق سلطة وسلطات فاسدة. سلطات عامة تخص البلاد كافة، وسلطات مناطقية تخص مكان عيشهم، وسلطات محلية تخص إدارة أمورهم اليومية. وهذا ما حصل خلال الأسبوعين الماضيين، عندما خرج مواطنون، كلهم على هيئة بشر، ليعربوا عن غضبهم من هذه السلطات. بعضهم وجد في مناطق بيروت والجنوب والبقاع، حيث لبيئة المقاومة حضورها الكثيف. وهنا بيت القصيد.
ما حصل أن من في السلطة، من رجال مخفر وحرس بلدي ومخاتير وأعضاء مجالس بلدية ومفاتيح انتخابية ونواب وسياسيين وحزبيين نافذين، ومتسلطين على مؤسسات الدولة، وحتى على الحياة الخاصة، كل هؤلاء، هالهم أن يخرج من خرجوا احتجاجاً. ولم يكن الأمر يقتصر على عدم فهم أسباب الاعتراض، بل الكارثة تكمن في كون ممثلي السلطات كافة، فوجئوا بأن هؤلاء المواطنين يتجاوزون حدود التعامل السياسي مع السلطات، وخالفوا قواعد العلاقة القائمة بين هذه السلطات والناس منذ عقود طويلة. وهال رجال السلطة أن هؤلاء الناس قرروا، بوضوح، التعبير عن تعبهم ونفاد صبرهم، ورغبتهم بالسؤال قبل المحاسبة وطلب التغيير.
الناس صرخوا جهاراً نهاراً. والبلطجة حصلت جهاراً نهاراً. هذا الوضوح لم يكن ممكناً لولا الكارثة المتراكمة على مدى ربع قرن من عمر هذه السلطة، بعد ربع قرن من القهر والحروب الدامية، وهو أتى بدوره بعد ربع قرن من استقلال وهمي اخترعه لنا استعمار تناوب على مدى قرون من الاحتلال والاستعباد. هذه الكارثة، في نسختها الأخيرة، أصابت الناس المقهورين توالياً ومن دون توقف. ولولا ثورة الفقراء التي تجلّت في نضال مدني وعسكري سقط خلاله عشرات الألوف من الشهداء، لم يكن ممكناً تبدل الأحوال. وهنا أيضاً بيت القصيد.
ما يجب الحديث عنه مع أهل المقاومة في هذا الصدد هو ما يتعلق بالمقهورين الذين تحوّل احتلالهم مواقع السلطة والنفوذ الى مصدر حرمان للآخرين. وهذا هو أصل النقاش. والغالبية الساحقة من الناس الذين خرجوا معترضين، في بيروت والجنوب والبقاع، ليسوا سوى أبناء المقاومة التي قامت ولا تزال ولو مع تبدل الرايات. وهم، في غالبيتهم، أشخاص عانوا الأمرّين حتى تحقق ما يفترض أنه تحرّرهم من احتلال قوى خارجية، ومن استبداد سلطات محلية. وهؤلاء، في غالبيتهم، ممن لم يخرجوا يوماً في وجه المقاومة القائمة الآن. ودلّت التجارب على أنهم وقفوا، وبدون تردد، الى جانب المقاومة، ليس بالخطاب أو البيان، بل بالتضحيات والدماء والدموع والإمكانات على ندرتها. وهؤلاء، مهما تعرّضوا لتضليل أو استثمار أو محاولة استثمار، ليسوا أبداً في موقع يحق لأحد، أياً كان، أن يهين الإنسان في داخلهم ويهين كرامتهم ويقوم بإذلالهم.
ما حصل في النبطية وصور ووسط بيروت ليس له سوى وصف واحد: البلطجة بأقرف صورها. وما حصل في النبطية وصور ووسط بيروت، ليس له سوى عنوان واحد: تمسك القاهر بقهره وسيلة للتعامل مع الناس. وما حصل في النبطية وصور وبيروت، ليس له سوى معنى واحد: فوقية إقصائية لا تعرف لحقدها حدوداً، ولا تعرف لطمعها حدوداً، ولا تعرف لوحشيتها حدوداً. وهذا ما يجب الحديث عنه.
من خرجوا في غالبيتهم ممن لم يخرجوا يوما في وجه المقاومة ودلت التجارب انهم وقفوا من دون تردد الى جانبها
لم يكتف المجرمون والزعران بفعلتهم في المسارح والمطارح. بل هم يواصلون أبشع عملية إذلال للناس. وليس من عاقل يقبل أن يبادر محتج انتفض غير آبه بجراحه وموته، لكنه يعود في لحظة الى موقع التائب والمعتذر المتخلي عن كرامته. وهذا الإذلال لا يحصل إلا عندما تكون خلفه قوة ظالمة، قوة متنفذة، قادرة على تهديد الناس بقوت يومها، وبوظائفها، وبأمنها الشخصي، وبسلامة عائلاتها، وبالحرم الاجتماعي وحتى الديني. وهنا أيضاً، بيت القصيد.
أعرف شخصياً السيد حسن نصر الله، وأعرفه منذ زمن بعيد، وأعرف الكثير عن عقله وقلبه، وأعرف متى يقسو على نفسه وعلى أهله من أجل القضية المحقة. وأعرف كم حمل وصمت عن كبائر ترتكب، فقط لحماية المقاومة. وأذكر أنه قال لي يوماً إنه لن يسأل عن ماء وجهه وهو يقود شباباً يخسرون حياتهم من أجل المقاومة، ولن يسعى الى بقاء صورته مرفوعة في بقاع الدنيا بينما تخسر المقاومة، ولن يقبل إغراءات الدنيا مقابل قناعاته الإلهية. لكنني أعرف ما هو أهم، أعرف إدراكه لمعنى الرجولة والشهامة واحترام الذات الإنسانية، وأعرف حجم حرقته على ظلم يلحق بطفل أو فتى أو صبية أو شاب أو أم أو أب. ولذلك، أسأله: هل يعقل أن لا تبادر الى منع هذا الظلم المستمر بحق إخوة لك في الخلق، لمجرد أنهم أعربوا عن رأي مخالف لرأي الزعيم ومحاسبيه؟
بهذا المعنى، سيكون الحديث واضحاً وصريحاً، حول المسؤولية المباشرة، والكاملة، لحركة «أمل»، من رئيسها الى قياداتها السياسية، الى وزراء ونواب ومجالس بلدية، الى ضباط ورجال أمن، الى رجال دين ونافذين وفتوة، الى جيش من المرافقين الذين يتولون مهمة إذلال الناس، ومعاقبتهم على رفع صوتهم اعتراضاً على أداء سلطة، تتولى «أمل» حصة كبيرة منها.
السؤال هنا، ليس عن العقل العفن الذي لا يزال يتحكّم بمن يلاحق الناس لإذلالهم. وإنما عن الثمن الذي يجب أن يدفعه الناس حتى يتغير هؤلاء، أم أنهم يريدون من الغاضبين اقتناص أول فرصة جديدة، والتصرف هذه المرة، بدرجة من العنف الذي يلجأ إليه المقهورون دفاعاً عن الحق، في ليلة صالحة أو كالحة…
إن تعرّض أيّ مواطن في بيروت والجنوب والبقاع لضغط أو إذلال لمنعه من التعبير عن رأيه، أو للعودة عن رأيه، أو لمنعه من الخروج من المنزل، هو عملية وحشية سيتم التشهير بالقائمين عليها، ومحاسبة الزعران، ومن يقف خلف بلطجتهم، هي مطلب لا يقل أهمية عن مطالب الناس الفقراء بدولة عادلة!!
من ملف : الحريري يقلب الطاولة