IMLebanon

رابحون وخاسرون من قرار ترمب

 

مثل كل قرار تتخذه دولة عظمى بحجم الولايات المتحدة، ستكون لقرار الرئيس دونالد ترمب سحب قوات بلاده من سوريا، تبعات كثيرة، كما سيكون بنتيجته رابحون وخاسرون. لكن النتيجة الفعلية لقرار ترمب هي أنه سحب يده من حل الأزمة السورية، في الوقت الذي ما زالت قوى كثيرة مناوئة للولايات المتحدة ولمصالحها في المنطقة العربية منغمسة في الصراع السوري، ولهذه القوى أهداف سياسية وعسكرية واضحة، على رأسها بالطبع بقاء بشار الأسد في السلطة.

قرار ترمب سحب القوات الأميركية من سوريا يأتي في السياق الذي دخلته الأزمة في هذا البلد منذ تدخلت القوات الروسية لإنقاذ الرئيس السوري. قرار يعزز القناعة التي صارت متداولة أن حلم التغيير السياسي في سوريا سيبقى حلماً، ولم يعد هناك مبرر بالتالي للوقوف إلى جانب القوى التي ما زال يراودها هذا الحلم. لهذا بدا ترمب منسجماً مع قناعاته عندما اعتبر أن مهمة القوات الأميركية قد انتهت بعد نجاحها في تحقيق «هزيمة داعش»، كما قال، مستبعداً أي مهمة أخرى لتلك القوات.

غير أن هذا النجاح يواجه أيضاً شكوكاً من قبل مسؤولين في إدارة ترمب نفسها، وكذلك من قادة غربيين انخرطوا إلى جانب الولايات المتحدة في الحرب على التنظيم الإرهابي. هذا مثلاً ما قاله الجنرال جوزف دانفورد رئيس هيئة الأركان المشتركة في الجيش الأميركي في محاضرة في واشنطن هذا الشهر: «نحن نتقدم على طريق القضاء على (داعش) وإبعاده عن المناطق التي كان يسيطر عليها في سوريا. لكن لا يزال أمامنا عمل كثير لضمان حالة الاستقرار في هذه المناطق وعدم عودة (داعش) إليها». هناك أيضاً تصريح المبعوث الرئاسي الخاص للتحالف الدولي بريت مكغورك: «لا أحد يقول إن مقاتلي تنظيم الدولة سوف يختفون. لا أحد بهذه السذاجة. لذلك نريد البقاء على الأرض والتأكد من الحفاظ على الاستقرار في هذه المناطق». ومثل هذا الكلام قاله مسؤولون آخرون وأعضاء في الكونغرس. أما رد ترمب على مواقف المشككين في نهاية «داعش» فهو أن هذه ليست مهمة القوات الأميركية، بل يجب أن تكون مهمة الأعداء المحليين للتنظيم مثل إيران والنظام السوري، إضافةً إلى روسيا. ترمب يريد أن يقول لهؤلاء: «داعش» شوكة في خاصرتكم فانزعوها بأنفسكم.

أما في ما يتعلق بالمعارضة السورية، فليس جديداً أن ترمب لا يعتبر أن وظيفة الجيش الأميركي لا يفترض أن تشمل دعمها. فضلاً عن ذلك فمنذ زمن إدارة باراك أوباما كان قد أصبح واضحاً أن الثورة السورية دخلت في مسار آخر، هو مسار إعادة الروح للنظام، ولو على مضض، مع جرعات من حفظ ماء الوجه، كان يقوم بها الغربيون والأمم المتحدة بين مبادرة وأخرى، كي يقولوا إنهم لم يُسقطوا نهائياً الشعارات التي رفعوها منذ عام 2011 والتي كانت تَعِد السوريين ومَن دعموا ثورتهم بأن الطريق سيفضي في النهاية إلى التخلص من بشار الأسد.

طبعاً يمكن وضع قرار دونالد ترمب في إطار التفرد الذي اعتاد عليه المسؤولون في إدارته. غير أن الحقيقة أن الرئيس الأميركي لم يخفِ مرة عدم رضاه عن وجود قوات أميركية على الأرض السورية. فمنذ إعلان ترشحه للرئاسة كان موقفه معارضاً. وحتى عندما قرر باراك أوباما مواجهة النظام السوري بسبب استخدامه الأسلحة الكيماوية (قبل تراجعه الشهير عن «الخط الأحمر») كان رأي ترمب: يجب أن ننأى بأنفسنا عن سوريا. فالمعارضون سيئون مثل النظام.

موافقة ترمب على إبقاء قواته في سوريا كانت مرتبطة بشكل مباشر بالحرب على تنظيم «داعش». ولم تكن هذه الموافقة متصلة إطلاقاً بدعم القوى المناهضة لنظام بشار الأسد، ولا حتى بدعم القوى ذات الغالبية الكردية (قوات سوريا الديمقراطية)، رغم الدور الذي لعبه هؤلاء في الحرب على «داعش»، والتي خسروا فيها نحو 1500 مقاتل خلال السنوات الأربع الأخيرة.

من هنا لا مبالغة في القول: إن هذه القوات، التي يشكل الأكراد غالبية وحداتها، هي الخاسر الأكبر من عملية الانسحاب الأميركي. ومع أن الأكراد معتادون على الهزائم، التي أصبحت في ثقافتهم توازي «الخيانات» التي يتعرضون لها من أوثق حلفائهم، فإن هذه الضربة ستضعهم مباشرة في مرمى قوات رجب طيب إردوغان، الذي ما فتئ يحذّر من اقتراب عملية شرق الفرات، ومنها تحذيره يوم السبت الماضي من أن «تركيا أضاعت وقتاً طويلاً حتى الآن قبل أن تتدخل ضد المستنقع الإرهابي في شرق الفرات، ولم تعد لدينا القدرة على الصبر لنهار واحد إضافي». هل يكون الانسحاب الأميركي إذن فرصة لإردوغان لتنفيذ تهديده، خصوصاً أن القرار الذي اتخذه ترمب جاء بعد اتصال هاتفي بينه وبين إردوغان. وحسب البيت الأبيض فإن «كل شيء حدث بعد ذلك هو في إطار تنفيذ الاتفاق الذي تم التوصل إليه في تلك المكالمة»؟

إذا كان انسحاب القوات الأميركية قد أخلى ساحة شرق الفرات لإردوغان عسكرياً، فإنه يمكن القول كذلك إن هذا الانسحاب أخلى الساحة لفلاديمير بوتين سياسياً. تكفي قراءة ما قالته المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية ماريا زخاروفا، من أن «القرار الأميركي سوف يؤدي إلى آفاق حقيقية لتسوية سياسية في سوريا. وستُكلَّل بالنجاح مبادرة تشكيل اللجنة الدستورية مع انسحاب القوات الأميركية». وكانت محاولات تشكيل هذه اللجنة قد فشلت في اللقاء الثلاثي الذي عقده وزراء خارجية الدول الثلاث المسماة «ضامنة» (روسيا وتركيا وإيران) بعدما اعترض المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا، على الأسماء التي ستشكل منها مجموعة المجتمع المدني والمستقلين في هذه اللجنة، والتي طغى عليها مؤيدو النظام، ما يعني استحالة إجراء تحول سياسي في سوريا. فإذا كان هذا التحول صعباً مع وجود القوات الأميركية، فكيف سيكون الحال بعد انسحابها وإخلاء الساحة لفلاديمير بوتين وقاسم سليماني ومَن يدور في فلكهما؟