المشهد العسكري في الشمال السوري هو مشهد سياسي بامتياز. كل تحرك عبر المتاريس يسبقه تفاهم في الكواليس. وكل تفاهم، وخصوصا بين اللاعبين الكبار، تقود اليه حسابات باردة من خلال رؤية مركبة للمواقع العسكرية في مكان محدد، ثم للخطوط الكبيرة على خارطة سوريا وموقعها في اللعبة الجيوسياسية محليا واقليميا ودوليا. وكما ان الحرب استمرار للسياسة بوسائل أخرى حسب كلاوزفيتز، فان المعارك في حرب سوريا تدار بالسياسة، لا فقط لأن القوى التي تقاتل مرتبطة بدول تموّل وتسلّح وبالتالي متأثرة بسياساتها بل أيضا لأن الدول الأساسية التي تموّل وتسلّح دخلت مباشرة في الحرب سواء الى جانب النظام أو الى جانب المعارضين.
ذلك ان معركة حلب انتهت بتفاهم روسي – تركي تحكّم بمجريات المعركة على الأرض وألقى بظلّه على مرحلة ما بعد حلب عسكريا وسياسيا. ومعركة جرابلس وصولا الى الباب باسم قوات درع الفرات المدعومة بقوات تركية بدأت بترتيب مع داعش للانسحاب من جرابلس، ثم بتفاهم روسي – تركي رضيت به أميركا لاخراج داعش بالقوة من الباب. وعندما تحدث الرئيس رجب طيب أردوغان عن منبج كهدف آخر قبل الرقة، فان واشنطن دفعت بقوة أميركية رمزية الى منبج للحؤول دون دخولها في سباق بين أنقرة ودمشق. وطلبت موسكو، ومعها واشنطن، من الكرد التخلّي عن قرى في ريف منبج ليدخلها الجيش السوري ويشكّل حزاما فاصلا بين درع الفرات والكرد.
فضلا عن أن تحرير تدمر من داعش مرتين جاء على ساعة الحسابات الروسية. والمعارك في حوران ودرعا تدار بسياسة بعضها يتأثر بحال العلاقات بين دمشق وعمان، وان كانت غرفة الموك تديرها عسكريا. والمعارك على حدود الجولان المحتل تتأثر بتقدير موسكو للمصالح الاسرائيلية. ومن الصعب قيام اسرائيل بغارات على مواقع داخل سوريا وأسلحة لحزب الله من دون تفاهم روسي – اسرائيلي.
واذا كانت اللعبة في حاجة الى مشاركة أميركية – روسية غائبة حاليا، فان كل ما حدث منذ نزع الأسلحة الكيماوية الى قرارات مجلس الأمن والبحث عن تسوية سياسية في جنيف كان ضمن تفاهم كيري – لافروف. واذا كان كل طرف يتّهم الطرف الاخر بأنه ساهم في صُنع داعش، فان كل طرف عمل على توظيف داعش. أما الكرد الذين تريد تركيا ابعادهم من أي دور، فانهم استفادوا من توظيف واشنطن وموسكو ودمشق لهم بالعمل على تحقيق أجندتهم الخاصة.
والسؤال هو: بأية سياسة يدار مستقبل سوريا والسوريين؟