Site icon IMLebanon

مع البخاري… لا ملل

     

عامان ونيّف على وليد البخاري يسرح ويمرح في سفارة بلاده في بيروت. تُحصى هذه الفترة الزمنية بالصور والتغريدات والجولات لا بالإنجازات. حين تسأل عن مستوى فعالية الدور السعودي في لبنان، تأتي الإجابة بالإشارة إنه «زمن البخاري»

 

في كل عرس له قرص. لكن من حسن حظه أن للمخابرات السعودية، وليس لوزارة الخارجية السعودية، أن تقرر وأن تستطلع. ومن حسن حظها أن العملاء في لبنان لا يحتاجون إلى من يتصيّدهم. مدبجو التقارير، وبرتب متفاوتة، ومن قطاعات مختلفة، ومن طوائف متعددة، متوافرون. بعضهم عمل في الزمن السوري، ولم يتطلب منه الأمر سوى نقل بارودته من كتف إلى أخرى، وبعضهم الآخر يريد أن ينتقم من الآخر، أكان اسمه حزب الله أم «رافضة» أم نظاماً سورياً أم حوثياً.

وليد البخاري. نقطة ضعفه الأولى في نسبه العائلي. البخاري الآتي، أصولاً وفصولاً، من بخارى إحدى مدن أوزبكستان حالياً، يحتاج إلى معجزة حتى يصبح في صلب نظام آل سعود. يحاول أن يقترب، كما فعل عندما جرب أن يخاطب ولي العهد، على هامش إحدى القمم العربية في الكويت، فجاءه من نهره وأبعده وأفهمه أن ليس هكذا يا وليد تقترب من «صاحب السمو».

يقدم وليد البخاري نفسه بوصفه منتمياً إلى المدرسة الدبلوماسية العصرية. «العصرية» هنا، وبنموذجها الرديء، لا تقاس بما تعلم أو قرأ أو خاض من تجارب أو راكم من علاقات أو ألف أو أنجز. العصرية هي الهوس بعوالم السوشيل ميديا. إتقان الحرتقات الصغيرة. التقاط الفرص.

لنأخذ النموذج الأخير. موسم الحج. لا ينجو أحد من الدبلوماسيين السعوديين في أي سفارة في العالم من حجم المطالب في هذا الموسم. المسألة هي عبارة عن إدارة ربطاً بما تقدمه المملكة عبر وزارة الحج إلى هذا البلد أو ذاك، لاعتبارات متعددة، أبرزها البعد السياسي.

بهذا المعنى، يسجل للبخاري أنه رسب في امتحان إدارة هذا الملف. لم يشهد الملف ضوضاء في السياسة، كما شهد هذه السنة. أصوات الاحتجاج التي كادت تصل إلى حد الاعتصام أمام السفارة، استناداً إلى ما جاهر به بعض علماء دار الفتوى، لا تمر بصورة عابرة عند الممسكين بالملف اللبناني في الرياض. حتى التعامل مع الرئيس سعد الحريري، لم يؤت ثماره. كان المطلوب معاقبته، لكن تسليط وسائل الإعلام، وخصوصاً «الأخبار»، الضوء على طريقة التعامل السلبية معه، استدرج ردود فعل في الشارع، فكان أن سارع السعوديون إلى امتصاصها، فزادت الحصة الحريرية، بفضل الطريقة البخارية العشوائية.

للبخاري أن ينشئ «غروبات» (مجموعات فناجين القهوة أو النسكافيه) على الواتساب. أن يحرض على حزب الله. أن يمضي أكثر من نصف نهاره ملاحقاً تويتر وإنستغرام، إلى الحد الذي يجعل بعض فريق السفارة يضيق ذرعاً به وبهواتفه التي لا تفارق يديه. يسري ذلك على عوالم افتراضية أخرى. المهم أن تأتي الفكرة. أن يلتقطها. أن يقول: حبكت.

قد يفهم من يقف في معسكر السعودية في لبنان أو في المعسكر المقابل، لماذا اختار البخاري أمين الريحاني عنواناً لنشاط ثقافي بدعوة من السفارة السعودية أو الإمام السيد موسى الصدر. لكن من يستطيع أن يفك أحجية الاحتفاء بالرئيس الراحل فؤاد شهاب. لو أدرك شهاب نفسه أنه صار عنواناً لاحتفالية سعودية، ربما خرج من قبره يصرخ ويولول.

في السابع عشر من تموز الماضي، زار البخاري «مؤسسة فؤاد شهاب» في جونية، مشيداً بالتجربة الشهابية ومادحاً الشخص الذي سميت المؤسسة على اسمه قائلاً: «لم اكن أعلم أهمية هذا النموذج في العالم العربي»، وأردف أنه اكتشف «علاقة المدرسة الشهابية برؤية المملكة 2030»!

مسكين فؤاد شهاب. لو راجع البخاري مذكرات عبد الحميد سراج، وفيها يروي كيف أن جمال عبد الناصر سمّى الجنرال شهاب رئيساً للجمهورية، في عز اشتباكه مع السعودية. قال عبد الناصر لسراج: أريد الحسم وأريد الرجل وهما ينطبقان على فؤاد شهاب. استدعى عبد الناصر السفير الأميركي في القاهرة ريموند هير، وقال له «فؤاد شهاب هو الحل». الحل بمعناه العروبي وليس الخليجي. الإعجاب المتبادل بين عبد الناصر وشهاب تحول إلى ثقة عالية. مع الوقت، لم يخذل أحدهما الآخر.

هذه نقطة أولى. الثانية، كيف للبخاري أن يروج لخطة ولي عهده محمد بن سلمان (رؤية 2030) من خلال ربطها برئيس لبناني رحل فقيراً وعاش متقشفاً، وله أكبر الفضل ليس في إنعاش الطبقة الوسطى بل وقدرته على محاكاة الطبقة الفقيرة. يدرك عارفو البخاري أن خلطه «عباس بدرباس» ليس من بنات أفكاره، وأن من زوّده بالفكرة نصحه بأن تكون إطلالته من العنوان الشهابي مدخلاً لتعزيز حضوره في الوسط المسيحي، وخصوصاً أن لهذا الوسط ليس تأثيره في لبنان، بل وحتى في المملكة التي قررت أن يكون معتمدها الأول في لبنان في هذه المرحلة سمير جعجع، في انتظار استحقاقات لا بد أن تأتي مستقبلاً.

هكذا هو البخاري، كلما تردّد اسم أديب أو سياسي أو صحافي على مسمعه، سارع إلى «غوغلته»، وصولاً إلى استكشاف إمكان الاستثمار في تكريم أو لقاء أو مساهمة مالية أو مناسبة ما. من حسن حظنا، أنه إذا غلب عليه الملل، اخترع لقاءً أسبوعياً ثقافياً أو ملتقى ثقافياً، أو نشاطاً أو زيارة تظهر زحمة وجوه من حوله. المهم أن يبقى القائم بالأعمال السعودي الذي عاد إلينا مطلع هذه السنة برتبة وزير مفوض، في الصورة. في العالم الافتراضي. أن تصل صوره بلمح البصر إلى بلاده. كل ما يعنيه أن يبلغ صيته واسمه عتبة الديوان وأن ينال رضا السلطان هناك. في عام 2016، عيّنه عادل الجبير قائماً بالأعمال في سفارة بيروت، إثر شغور هذا المنصب بوفاة شاغله السابق ماجد الشراري، وذلك على مسافة قصيرة من انتهاء مهمة السفير السعودي علي عواض عسيري الذي عاد إلى باكستان، حيث كان قبل لبنان.

في زمن عسيري، كثر المُحبون له. تراكمت التقارير في وزارة الخارجية السعودية. السفارة التي انتقلت من الروشة إلى شارع بلس (رأس بيروت) تم تصويرها بأنها عبارة عن منظومة فساد تبدأ ولا تنتهي. أقدم على تشحيل عدد كبير من موظفي السفارة الذين يتجاوز عددهم الأربعمئة موظف، ولا سيما اللبنانيين منهم (طاقم بعض سفارات السعودية في بعض الدول الكبرى يكون أقل من هذا الرقم أحياناً). داتا «أصدقاء السفارة» من سياسيين وتجار واقتصاديين وعقاريين وفنانين وفنانات تطرح الكثير من علامات الاستفهام. فُتحَ أيضاً ملف المواكب والسيارات والشقق وبدلات السفر والمآدب. على قاعدة هذه كلها وغيرها الكثير، قدّم البخاري نفسه «إصلاحياً». وضع خطة مكننة وخطة إخلاء. اهتم بالشكل، ففرض على الموظفين لباساً رسمياً مع ربطة عنق للرجال وألزم الموظفات والزائرات بارتداء المنديل داخل حرم السفارة وأنهى زمن التنانير القصيرة. يستهزئ بالآخرين من حوله. يعتبر نفسه «الأول» أو «الأشطر» بين السفراء. ذلك يجيز له أن ينصح القضاء اللبناني باستدعاء ومحاكمة صحف وصحافيين وربما يأمر بالتوقيف مستقبلاً!

في مطلع خريف عام 2017، وقع اشتباك دبلوماسي لبناني ــــ سعودي، على خلفية تأخر الجواب السعودي بشأن قبول أوراق اعتماد سفير لبنان في الرياض فوزي كبارة. تأخر الجواب اللبناني بشأن اعتماد وليد اليعقوبي (مساعد الوزير ثامر السبهان) سفيراً. في الانتظار، مضى البخاري بتصريف الأعمال. غداة اعتقال رئيس وزراء لبنان سعد الحريري (تشرين الثاني 2017)، عُيّن اليعقوبي سفيراً جديداً للمملكة في لبنان، لكن لم تمض أشهر قليلة، حتى سُحبَ من بيروت «لظروف خاصة»، فكان أن عاد البخاري مجدّداً في آذار 2018، ولكن هذه المرة، قائماً بالأعمال برتبة وزير مفوض، وليس سفيراً كما كان يأمل، وبقوة دفع تولاها سعودياً الوزير نزار العلولا الممسك حالياً بالملف اللبناني.

 

لو أدرك فؤاد شهاب أنه صار عنواناً لإحتفالية سعودية، ربما خرج من قبره مولولاً

 

يوم تسلم مهماته، قال البخاري إنه يريد تقديم صورة مختلفة عن بلاده. حضر في الضائع من الوقت. الارتباك السعودي في التعامل مع لبنان فرصة لإثبات الذات، وهو الآتي من خارج النادي التقليدي (خدم في ألمانيا سابقاً). ركز على الجانب الأدبي والثقافي، فوجد في الملتقيات الثقافية ضالّته، أطلق الملتقى الثقافي السعودي اللبناني في تشرين الثاني 2016 مخصصاً جلسته الأولى للحديث عن «عروبة أمين الريحاني»، فيما عقدت الجلسة الثانية في كانون الثاني 2017 تحت عنوان «لبنان يجمعنا» واعتبرها استكمالاً لمبادرة الملك عبد الله للحوار بين الأديان. في الثالثة، كرّم الإمام السيد موسى الصدر. في كلّ هذه اللقاءات، قدم البخاري نفسه وسعوديته، بصورة المنفتحين على الجميع. الرسائل السياسية يمكن إمرارها أحياناً بصورة غير مباشرة.

للحرتقة الدبلوماسية أصولها. يوم أحيا العيد الوطني السعودي في فندق «كامبينسكي» في أيلول 2017، دبج في تقريره أنه أقام تظاهرة ضمن النطاق الجغرافي لبلدية الغبيري، أي في قلب الضاحية الجنوبية. حقق الرجل إنجازاً باقتحامه حصون حزب الله، وبالتالي لا شيء يحول دون وجود المملكة في أي بقعة جغرافية في لبنان. حين زار والسفير الإماراتي حمد الشامسي مدينة بعلبك، عشية الانتخابات النيابية في آذار الماضي، فهمت الزيارة على أنها دعم سعودي للمعارضة الشيعية لحزب الله، فكان أن إرتدّت على هؤلاء المعارضين!

تجمعه صداقة بسفير الإمارات، ولو أن كليهما لا يضمر في السر المحبة التي يظهرها للآخر في العلن. فالشامسي لا تروقه تصرفات البخاري ولو تنافسا على حب الظهور وتنظيم النشاطات الثقافية، وهذه من بين الأسباب التي دفعت الشامسي إلى التغيب عن «فنجان قهوة 2»، فيما يسجل للبخاري أنه في «فنجان قهوة 3»، أظهر بعض الفضائيات اللبنانية رخيصة جداً، في تهافتها على رصد حركاته من باب سيارته حتى عودته إلى سريره. القاسم المشترك بين «الفناجين الثلاثة»، تجنيد جيش إلكتروني لبناني يواكب كل «كبائر» البخاري.

20 الف تاشيرة

وصف القائم بأعمال السفارة السعودية في لبنان وليد البخاري، العلاقة مع الرئيس المكلف سعد الحريري بأنها «ممتازة»، واضعاً كل ما يقال خارج هذا الإطار بأنه «شائعات تصبّ في مصالح غير مسؤولة».

البخاري بعد زيارته، أمس، الحريري، في منزله في وادي أبو جميل، قال إن أجواء اللقاء «رائعة جداً»، موضحاً أن السفارة السعودية «أنجزت 5 آلاف تأشيرة خلال 49 ساعة عمل قام بها طاقم متكامل تمكن من تحقيق هذا الإنجاز بهذه السرعة».

يذكر أن الخمسة آلاف تأشيرة دخول إضافية لهذه السنة(بينها ثلاثة آلاف للحريري وحده)، جاءت بعد مدّ وجزر بين رئاسة الحكومة ودار الفتوى، من جهة، والسلطات الرسمية السعودية من جهة ثانية. وقد بلغ عدد الحجاج هذه السنة نحو 20 ألفاً، بينهم 15 ألف لبناني و5 آلاف من السوريين والفلسطينيين. واستوجب رقم الخمسة آلاف تمديداً استثنائياً لرحلات طيران الشرق الأوسط إلى السعودية حتى ليل السبت الأحد.

 

 

تحضير أرضية شمالية مع جعجع

تبلّغت مراجع رسمية عليا أن ما يجري من تحركات في بعض مناطق الشمال، بعناوين مختلفة وبدعوة من جهات سياسية أو «مدنية»، إنما هو جزء لا يتجزأ من إعداد أرضية لبنانية، وخصوصاً في بيئات معيّنة، تستهدف التصويب على العهد وكل ما يمتّ بصلة إليه (تيار وطني حر وقوى وشخصيات محسوبة على العهد)، وفي الوقت نفسه الترويج منذ الآن لرئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع بوصفه المرشح الأبرز لرئاسة الجمهورية في المرحلة المقبلة.

في المعلومات التي تلقتها هذه المراجع، أن القائم بالأعمال السعودي في لبنان، الوزير المفوض وليد البخاري، كُلّفَ إعداد أرضية شعبية على مستوى الساحة اللبنانية كلها، وعلى مستوى طرابلس والشمال بشكل خاص، باعتبار أن الشمال بيئة إسلامية موالية تاريخياً للسعودية بوصفها مرجعية المسلمين السُّنة.

هذا الإعداد يجري في أكثر من اتجاه:

أولاً، توفير دعم مالي إضافي للقوات اللبنانية يساعدها على أن تنشط أكثر في الأوساط الإسلامية السنية. ويلاحظ في هذا السياق، توسع دائرة حركة عدد من الناشطين الإسلاميين الشماليين وأبرزهم (أ. أ.) في الآونة الاخيرة، وما يقدمه من خدمات، وخصوصاً من خلال وزارتي الصحة والشؤون الاجتماعية اللتين يتولاهما وزيران قواتيان هما غسان حاصباني وبيار بو عاصي، ما ساعد هؤلاء الناشطين على استقطاب شريحة شبابية لقاء إغراءات مالية وخدماتية، إضافة إلى استقطاب الراغبين في الحج إلى مكة، حيث خصصت السعودية عدداً من تأشيرات الحج لأبناء عكار وطرابلس والشمال، جرى تمريرها لهؤلاء الناشطين إما مباشرة أو من طريق القوات.

ثانياً، إيحاء البخاري خلال جولاته بأن السعودية راضية عن أداء جعجع وحزب القوات اللبنانية، وهو ما عُبِّر عنه صراحة خلال جولة القائم بالأعمال السعودي في وادي خالد. وفي الوقت عينه، إرسال إشارات انزعاج من أداء رئيس الجمهورية والتيار الوطني الحر.

ثالثاً، تشجيع البخاري الدعوات الشعبية إلى تنظيم اعتصامات في عكار تستهدف فقط وزراء التيار الوطني الحر، خاصة وزير الطاقة، للتصويب من خلاله على العهد و«التيار». وهذا ما أبرزته الحماسة القواتية، أمس، للاعتصام أمام مقر شركة كهرباء لبنان في حلبا، وذلك في معرض الرد على الحضور المتنامي للتيار ونائبه في المنطقة أسعد ضرغام. وكان لافتاً للانتباه دخول النائب القواتي وهبه قاطيشا على خط ما يسمى «الحراك المدني»، بدعوته إلى المشاركة في الاعتصام الكهربائي، وكذلك النائب وليد البعريني وعدد كبير من رؤساء البلديات في المنطقة، وبعضهم يتواصل مباشرةً مع السفارة السعودية في بيروت.

(الأخبار)