اعترف أنني لم أحب يوماً -كقارئ- جريدة «شارلي ايبدو» الفرنسية. لكنني حيال الاعتداء الوحشي الرهيب الذي تعرضت له لا يمكنني إلا أن أتعاطف معها. هذه الصحيفة الكاريكاتورية بلغت في السخرية والمماحكة والقدح مبلغاً يتخطى العرف الصحافي. وغدت جرأتها في هتك المقدس ضرباً من المغامرة السافرة التي لا أفق لها. بعض رسومها الساخرة من الخالق والمسيح لم يكن ليحتملها حتى الملحد. ولم توفر الجريدة ديناً من الأديان التوحيدية والآسيوية ولا رمزاً من رموز المقدس، ولم تأبه لآراء الأفراد والجماعات ولمشاعرهم الداخلية ومواقفهم السياسية. لم نعتد في العالم العربي مثل هذه الصحف. هذه الجريدة ما كانت لتقوم لولا الحرية المطلقة التي تنعم بها فرنسا. الحرية التي تسمح للمرء أن يكون ما يشاء وأن يقول ما يشاء ولو تجاوز في أحيان مشاعر البشر، أجل مشاعرهم التي باتت في نظر بعضهم نافلة ولا قيمة لها.
لم تكن رسوم «شارلي ايبدو» تعرف حداً في سخريتها، فهي على يقين أن الكاريكاتور فن يتجاوز حواجز الدين والتابو أو المحرم والمعتقدات، ولا مانع من أن يواجه هذا الفن ثقافة «المقدس» انطلاقاً من نزعته «الدنيوية». وفات الصحيفة أن «المقدس» و»الديني» اكتسبا تاريخياً معناهما من خلال تعارضهما مع «الدنيوي»، وأن النفس الإنسانية دينية بطبيعتها، كما يقول كارل يونغ.
لم يحتجّ المسيحيون ولا اليهود في فرنسا علانية على رسوم هذه الجريدة. اعتادوا ألا يبالوا بها على رغم صلافة بعض الرسوم وقسوتها و»إرهابها» المجازي. فالرسوم بنظرهم ليست سوى رسوم ولن يكون لها أثر على جوهر الدين. ولم توفر الجريدة الإسلام ولا البوذية ولا الهندوسية وسواها… هذا هو الهتك في مفهومه اليومي والسطحي والعابر، غايته الإضحاك والهزء ولو على حساب الآخرين ومعتقداتهم وقناعاتهم. هتك متطرف، قاس، عابث، لاه، مستبد… لكنه غير عنصري وغير طائفي وغير فئوي. ولم يكن مستغرباً أن يطاول اليمين الفرنسي المتشدد في تطرفه.
لم تثر هذه الصحيفة على رغم شعبيتها ورواجها، حفيظة الكنيسة رسمياً ولم يسع يهود فرنسا إلى إلقاء تهمة اللاسامية عليها لا سيما أنها تحاشت التطرق إلى «المحرقة». أما المراجع الإسلامية الرسمية في فرنسا فلم تمنحها كبير اهتمام، على رغم امتعاضها من سخريتها المسيئة إلى الإسلام. مثل هذه السخرية الجارحة لا تواجَه إلا بالصمت والتغاضي وغض النظر… لكنّ هذا الموقف المتسامح نظرياً لم يمنع جمعيات كثيرة مسيحية ويهودية ومسلمة من اللجوء إلى المحاكم لمقاضاة الصحيفة أمام المحاكم التي اعتادت المثول أمامها، وهي نادراً ما تمكنت من مقاضاتها.
غير أن الأصوليين الذين نصّبوا أنفسهم مدافعين عن الإسلام لم يشاؤوا أن يتغاضوا عن الصحيفة الكاريكاتورية ويلجأوا إلى المحاكم. هؤلاء الظلاميون الذين يكرهون الفن أصلاً والحياة وكل ما يتعلق بها، والذين يملكون محاكمهم الخاصة ويدينون البشر قبل موتهم، استغلوا هذه الفرصة الذهبية ليمارسوا أفعال القتل الشنيع، متيقّنين أنهم يؤدون واجبهم الديني والدنيوي. أطلق هؤلاء الظلاميون الرصاص والقذائف على الصحافيين والرسامين في عقر دارهم فقتلوهم شر قتل ومزجوا حبرهم بدمائهم. إنه العنف الوحشي المستتر تحت قناع الدين، العنف الذي لا يرى ولا يرحم، العنف الذي يملك صك الغفران وينفذ ما يخاله أمراً فوقياً. ليس هؤلاء بمسلمين ولا هؤلاء ببشر مثلهم مثل كل القتلة، ومنهم الصهاينة الذين اغتصبوا أرض فلسطين. كل العلماء المسلمين في العالم العربي والخارج أسقطوا عنهم صفة الدين واستنكروا بشدة فعلتهم الشنيعة. ولم يكن مقتل الصحافيين التونسيين الذي تلا مقتل أسرة «شارلي ايبدو» على يد أصوليين في ليبيا إلا تتمة لهذه المجزرة التي لا يميز أبطالها بين مسيحي ومسلم، ويكفّرون كل من لا ينتمي إلى مبادئهم الظلامية.
كان مشهد «مجزرة شارلي ايبدو» رهيباً: الرصاص ينهمر على الأقلام وأصحابها والقذائف تدمر وتحرق الأوراق والدفاتر. الرسامون والصحافيون سقطوا فوق طاولاتهم. هم ما كان ليخطر لهم أنهم سيدفعون باهظاً أثمان حريتهم وفنهم، أنهم سيدفعونها دماً وقتلاً. وسرعان ما ارتفعت في العالم أجمع لافتات كتب عليها «أنا شارلي». هذه العبارة كانت عنواناً لآلاف المقالات والرسوم اجتاحت العالم وبعض المدن العربية. أمام مثل هذه المجزرة لا يمكن أحداً أن يصمت، لا يمكن أحداً إلا أن يكون «شارلي».
هزت المجزرة أوروبا وأميركا وسائر بلدان العالم، فهي مجزرة وحشية ورهيبة أولاً، وهي حصلت ثانياً في قلب أوروبا، في باريس عاصمة الثقافة والحرية والحوار الحضاري، وهي أصابت ثالثاً عنجهية الغرب الذي يظن أنه يملك وحده الحق في إرساء مصائر الشعوب ورسم الخرائط الجيو-سياسية. وكما في حادثة الحادي عشر من أيلول، شاهد العالم «الآخر»، العالم الثالث، هذه المأساة الغربية، الحقيقية والرمزية، على الشاشات الفضائية. هذه المرة لم يكن الغرب هو من يشاهد المآسي على الشاشات، كما اعتاد أن يشاهد مآسي فلسطين والعراق وسورية واليمن…
كان لا بد من أن يتحرك العالم أجمع فوراً، بُعيد هذه الضربة الإرهابية الرهيبة التي تعرضت لها فرنسا، هذا أمر طبيعي. أما أن تتعرض شعوب عربية للقتل والإبادة تحت نيران الدكتاتورية والأصوليين، وأن يتشرد الألوف ويجوعوا، فهذا أمر يحتاج إلى الدرس والنظر والمزيد من النظر.