هناك موت في مكان معروف، وهناك جنين في رحم، وهناك مخاض عسير. ينبغي أن يختار اللبناني بين أن يكون مع «الميت» وبين انتظار المولود الجديد. التذاكي والتلكؤ غير مجديين. إما أن يكون اللبناني مع هذه الطغمة السياسية بكل شناعاتها وإما أن يكون مع هذا «الحراك» اللبناني، من دون «ولكن»… الانقسام الجديد صحي، بلا شبهة طائفية أو عورة مذهبية. نصابه يقوم على فريقين: فريق «الطبقة الحاكمة» وفريق الحراك السلمي.
لبنان بعد «الحراك» لم يعد كما كان. الانقسام البائد بين «8 و14 آذار»، أنهك الدولة وكشف النظام وهدّد الكيان. ترك اللبنانيين قاب قوسين من «الفتنة»، مستقوياً بها كي يرسخ شرعيته في تمثيل أحد أطراف «الفتنة». أغرق البلد في ديون يدفع اللبناني من عرقه سدادها، وأوقعه في عجز أقعد المؤسسات وأقنع اللبنانيين بقهر الهجرة، حتى بات البلد رصيفاً لتصدير أبنائه، وشاطئاً آمناً لتوظيف الفوائض الإقليمية في حروب عقارية، احتلت فضاء المدينة ومساحات الحياة فيها… الانقسام البائد، عمَّم اليأس ونشر ثقافة القبول وانتظار الأسوأ دائماً، وأقنع الناس بأن عليهم أن يتعايشوا مع الأزمات بلا حل، مع المعضلات بلا زمن، من دون كهرباء ولا ماء ولا كرامة ولا عمل ولا أمل. درَّبهم على القبول بالفساد ديناً هم كهانه وبطانته ومحفظته.
الانقسام البائد كرس مبدأ انعدام الحلول من الداخل. ربط مصير لبنان بالأوامر الإقليمية المجزية. لذا، أقفل آلية عمل المؤسسات وجعل من الدستور خرقة ومن القوانين ممسحة ومن «التوافق» غاية مستحيلة ومن المؤسسات مغاور. في الانقسام البائد، لا موالاة ولا معارضة، فريقان مجهزان بالذخيرة الطائفية والمذهبية، يخوضان حروباً بلا سلاح، كان من نتائج معاركهم المشتركة، استسلام اللبنانيين لليأس، واعتبار لبنان بلداً محتلاً من الداخل. ولا بديل يرجى لهذه الطبقة الشرسة، الطالقة من أي مرجعية قيمية، والملتزمة بإدارة الفساد المنظم، التي كبلت اللبنانيين بالضرائب والإنفاق المزدوج، على الكهرباء والماء والتعليم والطبابة، وحرمته من التمتع بحرية نظيفة.
أمام اللبنانيين اليوم لحظة حاسمة. إنهم أمام الحقيقة وعليهم أن ينظروا إليها وجهاً لوجه، بلا مواربة. إما أن يكونوا مع «القوى الظلامية» أو مع قوى الحراك المدني، التي تعد على الأقل، بالتدرب على الرفض والغضب والنزول إلى الشارع والاعتصام في الساحات والوزارات والمؤسسات، كونها ملكاً عاماً، اغتصبته القوى المستقوية بالطائفية والنفوذ والدعم الخارجي، وحوّلته إلى ملك خاص، تتنافس أطراف الطبقة على حصة فيه، ومنع أي لبناني من المطالبة في حقه. هذا الحراك، إما تكون معه أو تكون ضده، من دون «ولكن». هذا الحراك قرر أن يستعيد البلد بالطرق التي تفرضها شرعية التمرد وأخلاقيات الغضب ونبل الهدف: تحرير لبنان من محتليه الداخليين.
«الخائفون» من الحراك كثر. يفلسفون ترددهم بالخوف من المجهول. الخوف صناعة السلطة. المجهول ابتكار هذه الطبقة. مصير لبنان، قبل اندلاع الحراك، كان مجهولاً ومآله خطيراً. «الخائفون» يفلسفون العجز. يقولون: «هذا هو لبنان»، «البلد مركب وصعب»، «حافظوا على التوازن الطائفي»، «الخصوصية اللبنانية». فلتذهب هذه الفلسفة إلى الجحيم. يخلقون الحالة ويخوِّفون اللبنانيين من تداعياتها. لقد دفع اللبنانيون من حياتهم عمراً كاملاً بسبب هذه «التقوّلات» والشعارات. إن الركام اللبناني والخراب القائم والعجز المضني والنفايات المهينة، هي الإبنة الشرعية لهذا النظام والمستفيدين منه. واليوم جاء من يقول لهم: «طلعت ريحتكم»، «بدنا نحاسبكم»، و…
«الخائفون» من الحراك على مصالح الطبقة، سيحاولون خنق الحراك، بما لديهم من ذخيرة. كأن يقولوا: «ما هوية هذا الحراك؟ من يقف خلفه؟ من يدعمه بالمال؟ أي دولة نفطية صغيرة تمده بالدعم؟ أية سفارة تتبناه؟ من يديره بالريموت كونترول؟».
لا خطر على الحراك من عنف السلطة. كل الخطر من نجاح السلطة ومن معها، من «أطياف» التحالف الطائفي السياسي «الآذاري» بفرعيه، في تشويه السمعة الأخلاقية للحراك، أو في افتعال أنماط إلحاقية بتيارات ناشطة أو صدامية معها، أو في تفكك الحراك إلى مجموعات متنافرة ومتغالبة. لا نجاة من المخاطر هذه، إلا بديموقراطية الحراك ومنع الاستئثار وادِّعاء الحصرية. هذا الحراك يمثل اللبنانيين الذين يرغبون باستعادة بلدهم من سارقيه، عبر معركة مفتوحة ومتدرجة تُلزم السلطة بالخضوع لإرادة الشعب.
إنها معركة طويلة، معركة تحرير لبنان من مغتصبيه.