قفَزت منطقة رأس بعلبك الى الواجهة منذ أكثر من عام بعد المواجهات العنيفة التي شهِدتها جرودها بين فوج الحدود البرّي الثاني و«داعش» والمنظمات الإرهابيّة، ما دفَع الجيش الى تعزيز انتشاره في المنطقة بعدما قدَّم كوكبة من الشهداء في معركة تلة الحمرا الاستراتيجية في 23 كانون الثاني 2015، لذلك كان لا بدّ لـ«الجمهورية» من جولة مع الجيش على النقاط المتقدِّمة للإطلاع عن قرب على كيفية التصدي للمنظمات الإرهابية، خصوصاً مع استعداد اللبنانيين للاحتفال بالأعياد.
«لا مساكنة مع الإرهاب، والحرب عليه مستمرّة»، هذا الشعار يَرفعه الجيش اللبناني، ويُطبّقه في جرود رأس بعلبك حيث تُسمع أصوات المعارك اليومية والاشتباكات الدائمة التي يتردَّد صداها في البقاع وكلِّ لبنان من دون معرفة تفاصيل عن وضع الجيش في تلك المراكز، والظروف القتالية الصعبة التي يخوض فيها حربه الطويلة ضدّ الإرهاب الجارف الذي تتفشّى شظاياه شرقاً وغرباً.
خطّ الدفاع الأوّل
لم يكن سكان رأس بعلبك يعلمون منذ مدة أنّ بلدتهم الوادعة والآمنة ستُصبح خطّ الدفاع الأوّل عن لبنان في وجه «داعش» والمنظّمات الإرهابية، بعدما حاولت التمدّد بقاعاً، لكنّهم كانوا على ثقة بأنّ مَن يَحمي لبنان ويَضع «روحه على كفّه» ويُقاتل بشراسة وبسالة متحدّياً الطبيعة والإرهاب، قادر على صدّ أعنف الغزوات وهزيمة أكبر القوى الإرهابية.
الجيش العراقي لم يصمد أمام «داعش» أكثر من 48 ساعة، فتفكّك وانهار بسرعة، والجيش السوري لم يستطع حتى الساعة إسترجاع المناطق التي إحتلتها «الدولة الإسلامية»، والتحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الاميركيّة ومشاركة معظم دول العالم يُراوح مكانه في المعركة ضدّ الإرهاب على رغم غاراته اليومية، والتدخل الروسي لم يُعطِ حتى الآن ثماره، فيما يقف فوج الحدود البرّي وبقية وحدات الجيش اللبناني في رأس بعلبك في وجه «داعش» وأخواتها، لا يخاف إرهابها، ولا ينحني أمام «صيطها» الذي ذاعَ في العالم أجمع بأنّ أحداً لا يستطيع مجابهتها.
فتصدّت لها الوحدات المنتشرة، وحاصرتها في الجرود ودفعتها الى الخلف وشلّت حركتها، لذلك إنتشر إسم فوج الحدود البرّي الثاني بسرعة، كقوّة مقاتلة لا تَهاب الموت وتخوض المعارك الناجحة وتنتصر، فالمعادلة بسيطة: «اذا كان عدوّك قوياً واستطعتَ التغلب عليه فهذا يَعني أنك اقوى»، خصوصاً إذا كنت تُدافع عن أرضك وقضيتك وصاحب عقيدة وطنية صلبة معمّدة بالدماء والشرف والتضحية والوفاء.
بداية الجولة
تشهد قيادة فوج الحدود البرّي الثاني حركة مكوكية، إتصالات متواصلة مع المراكز المتقدِّمة، تأمين الاحتياجات الضرورية والأمور الروتينية للجنود، بالتنسيق مع قيادة الجيش، لأنّ العسكري المرابض على الجبهة «مقدس»، لذلك يجب إحترامه الى أقصى حدود، والاهتمام به والحفاظ على معنوياته المرتفعة.
يُمسك فوج الحدود البرّي الثاني ووحدات أخرى بالحدود البقاعيّة الشمالية، ويبلغ طول الجبهة هناك نحو 45 كيلومتراً، وقد أنشأ العديد من المراكز المتقدِّمة على مختلف الجبهات، اضافة إلى مراكز دعم ومساندة ونقاط ثابتة ومتحرّكة.
تبدأ جولة «الجمهوريّة» مع الجيش ككلّ مرّة من مركز القيادة حيث تؤمَّن لنا سيارات «الهامفي» الرباعية الدفع، ويُرافقنا أحد الضبّاط للإطلاع على أحوال وإنتشار أصحاب البزّات المرقّطة، فانطلقنا في إتجاه الجرود عبر طرق جبلية متعدّدة، وقد إخترنا طريق سيل الفاكهة التي أطلقت عليها هذه التسمية لأنّ السيول تمرّ فيها وتكسوها بالحصى لتصبح طريقاً طبيعيّة.
لا تتعَب تلك الطريق من مرور آليات الجيش، فالأرض كما الشعب متضامنون ويساندون مَن يُدافع عنهم. ويَستخدم هذه الطريق أيضاً بعض مالكي الأراضي وأصحاب المقالع والكسارات، فالطبيعة الجبلية قاحلة ونادراً ما تصادف شجرة، ومن الصعب اختراق تلك المنطقة المحصّنة طبيعيّاً، لأنه لا يعرف السير عليها إلّا ابناء البلدة، وطبعاً الجيش الذي لا يُضيّع البوصلة ويعرف كلّ طرق الوطن وممرّاته.
قلاع محصّنة
يختلط صدى أصوات القذائف بأصوات التفجيرات في المقالع، إلّا أنّ الجنود الرابضين على الجبهات يُميّزون جيداً بينهما. ولأن لا مزاح أو «إستلشاء» في المعارك، حوّل الجيش مراكزه المتقدّمة في رأس بعلبك قلاعاً يَستحيل اختراقها، مجهّزة بأحدث وسائل الحماية والدفاع والهجوم.
يشعر المرء بثقل المواجهة وخطورتها عندما يصل الى مركز «المنصرم» وتتراءى له المناطق التي تحتلّها «داعش» والمنظمات الارهابية الأخرى، فمن المعلوم أنّ هذه المنظمات تحاول التسلّل بين مراكز الجيش في عرسال ورأس بعلبك لتنفيذ أعمال إرهابيّة أو مهاجمة مراكز الجيش أو محاولة فتح خطّ لتأمين الإمدادات لها.
نصل الى المركز، العسكريون مستنفرون و«واقفون على سلاحهم»، المناظير تراقب، الجميع يأخذون مواقعهم على الدشم والمدفعية والدبابات، لأنّ المسلّحين يتحرّكون ويريدون الانتقام بعدما استهدف الجيش إحدى آلياتهم وقتل عدداً منهم.
المعارك اليومية
يُمكن وبالعين المجرّدة تحديد تحرّكات المسلّحين من مراكز الجيش في رأس بعلبك، فهم يستعملون طرقاً جبلية موجودة أصلاً يستعملها المهرّبون، ويسرعون في السير قرب الآلية التي قصفها الجيش خوفاً من إستهدافهم، لكنهم لم ينجوا من مدفعيته ودقّة تصويب عناصره المتفوّقين في الرمي بالمدفعيّة. لقد حدّد أحد الضباط الهدف، أُعطيت إشارة إطلاق النار فأصيب الهدف إصابة مباشرة، وما هي إلّا دقائق حتى فتحت المعركة على تلك الجبهة.
ربط الجيش مراكزه المتقدِّمة في رأس بعلبك والمراكز الخلفية بعضها ببعض، وتقول قيادة فوج الحدود البرّي الثاني إنّ الجيش أمسَك بالوضع الميداني ومنَع أيّ عملية تسلّل، والوضع تغيَّر منذ سنة، فموازين القوى تبدّلت والجبهة أضحَت ممسوكة نتيجة الاحتياطات والتحصينات الكبيرة والجهوزية الدائمة والدعم اللوجستي والعسكري. فالأحداث السابقة لن تتكرّر على رغم المواجهات اليومية.
أم خالد و«الحمرا»
لا يختلف الوضع في رأس بعلبك بين مركز وآخر، فكلّ المراكز حاضرة وجاهزة وتساند بعضها. وبالإضافة الى التحصينات العسكرية، اتُخذت التحصينات لمواجهة الجنرال الابيض والصقيع، فبعد غياب الشمس لا يمكنك الوقوف خارجاً، لأنّ درجات الحرارة تنخفض وتُلامس الصفر، وبالتالي كلّ مستلزمات الحياة في المركز مؤمّنة من أغذية ومواد تدفئة وغيرها.
فمركز «أم خالد»، محصّن ومجهّز بأجهزة مراقبة حديثة، ومنه انطلق هجوم الجيش لاستعادة تلة الحمرا إثر تعرّضها لهجوم من عناصر المنظمات الإرهابية، وأنشأ عليها مركزاً متقدِّماً للمراقبة والدفاع.
ومن المعيار العسكري، فإنّ تلك المنطقة ساقطة عسكرياً في يد الجيش، وخطّة إنتشاره الواسعة والمُحكمة وإعتماده أساليب قتال حديثة ساعدته في حسم المعركة سريعاً ومنع التنظيمات الإرهابية من التحرّك، وبالتالي فقد أحكم الجيش سيطرته على خطّ عرسال رأس بعلبك في السلسلة الشرقية وأبعد الخطر عن الحدود. ومع كلِّ معركة يخوضها الجيش يتأكّد أكثر وأكثر رهان اللبنانيين عليه، فأهل رأس بعلبك إطمئنّوا وكذلك لبنان الذي بات محصّناً وإتكاله على الجيش فقط.