IMLebanon

مع آخر أوراق السفير ومن اللواء .. شكراً طلال سلمان..

عندما بدأت رحلة قتل الانسان وتدمير البيوت وتقطيع أوصال الوطن، يوم استبيحت قيم الوحدة والحريّة والتنوع والانفتاح، يوم استهدف كل لبناني يقرأ جريدة أو كتاباً في تلك الأيام الشديدة الغضب والعبث والضياع، رفرفت حمامة طلال سلمان كسفيرة لجيل جديد من الكتاب وأهل الرأي في لبنان.

يومها كنّا نودع صحفاً وكتّاباً، اذ كانت قد هاجرت مجلة الحوادث ودكّت مباني جريدة المحرر بالمدافع ومعها جريدة بيروت، وتوقفت عن الصدور لسان الحال المسائية، ايّام كانت الصحف تصدر في الصباح والمساء، بعد أن وضعت العبوة الناسفة لجريدة النهار وبعد إختطاف ميشال ابو جودة ثم اغتيال نقيب الصحافة في لبنان.

تلك الأيام كنّا نعتقد اننا قد أصبحنا أرقاماً حقيقية في لبنان، وظن بَعضُنَا ان شلالات الدماء التي تسيل على ضفتي خطوط التماس ستجدد الحياة الوطنية بالحداثة والعدالة والعلمنة، وكنا نعتقد بأن النظام الطائفي قد هرم وشاخ، وذلك قبل ان نكتشف بأن الطائفية أقوى من الدولة والثورات والاحلام، يومها تصدرت الصفحات الاولى في جريدة السفير أقلام شابة وغير معروفة قدمتها بكلّ جرأة تلك الجريدة الغراء .

كانت تجربة السفير حقبة حساسة من حياة اجيال اليسار العروبي حسب التصنيف السياسي آنذاك، قبل ان تُقتل العروبة وينتحر اليسار، يوم هيمن الوكيل القادر على قيادة الدولة والمجتمع في آن، ويوم أضل المناضلون الطريق نحو الهدف الأساس، وذبح اللبناني أخاه في الوطن حباً بلبنان ونُثرت الورود على قوى الاحتلال.

غداً سأفتقد شيئاً من خصوصياتي اليومية والتي تخليتُ منذ زمن بعيد عن توصيفها، لأنني وسواي فقدنا الرغبة في الاختيار، وتكيّفنا مع النكسات والهزائم امام الإخوة والاعداء على حد سواء، وأصبحنا لا نبحث عن السعادة او الانتصارات كما كنّا في ايّام ما قبل القتل والدمار ويصبح لدينا الكثير مما لم يقل ولا يقال ، او أن يجرؤ احد منّا ان يبوح به وهو اننا نعرف كلّ اصدقائنا ورفاقنا الذين قَتلوا وذَبحوا الآخرين بأيديهم الملوثة بالدماء، ونعرف ايضا كل الذين نهبوا وأثروا من دماء الناس ومن التآمر والتواطؤ مع الإخوة و الأعداء، وكل الذين سرقوا ويسرقون المال العام حتى اصبح صمتنا وتكيفنا ثقافة وطنية عامة، يطالب فيها الفاسد بمحاربة الفساد.

ان ما يربطني بالسفير هو انها واكبت المشوار الطويل في محاولة البحث عن الذات، ولم أكن من الاسماء الذين قدمتهم السفير للسياسة والصحافة، والذين ربما يكون لديهم اليوم لحظتهم الوجدانية الخاصة مع نهاية التجربة التي حملتهم لسنوات طوال، سياسيين وكتّاباً ومبدعين لبنانيين وعرباً، وربما علينا ان ندرك جميعا هول ان تتهاوى الكتابة صريعة أمامنا، مما قد يعني ان لبنان الذي كنّا فيه وكان فينا اصبح الى زوال.

سأفتقد حمامة طلال سلمان في ما تبقى لي من الأيام، وسأفتقد حرفته الصحافية التي يعطي فيها من يعتقدون انهم أخذوا منه، ويحفظ لجريدته حريتها واحترامها لقرّائها، مما يجعلك تغضب مما نشرته جريدة السفير في الصباح وتسامحها عند المساء، وسأفتقد صباح كل يوم جمعة حديث العقل والتجربة والثقافة والوجدان للصديق الفضل شلق الذي أصرّ حتى الأمس ان يخاطبنا كعقلاء وأهل رأي وكتّاب، في زمن اصبح فيه اغتيال النصوص الرفيعة من سمات صنّاع السياسات ومن تجليات الفوضى الخلاقة الحمقاء.

مع آخر أيّام العام وآخر أوراق السفير ومن اللواء شكراً طلال سلمان.