Site icon IMLebanon

الانسحاب من الحوار والحكومة يكرّس الفراغ وهذا ما يريده المتربّصون بلبنان شراً

لو أن كل القادة في لبنان يعتبرون أنفسهم “أم الصبي” لما كان أحدهم يمنّن الآخر بتقديم تنازلات وتضحيات حرصاً عليه، بل كان يقول: سيان عندي بقي الصبي حيّاً أم صارميتاً.

لذلك فإن المشاركة في الحكومة لم تكن تنازلاً من طرف لطرف أو كرمى له، إنما كرمى للبنان وقبول التضحية في سبيله وليس التضحية به، والمشاركة في الحوار لم تكن ارضاء طرف لطرف إنما انقاذاً للبنان من فتنة تودي به، فلا تهديد طرف بالانسحاب من الحكومة ومن الحوار هو في مكانه الصحيح، ولا الردّ عليه بالقول “روحوا مع السلامة” هو الرد العاقل، فالشريك لا يقول لشريكه كلاماً كهذا وإلا انتهت الشراكة وانتهى الوطن. فأين قادة اليوم من قادة الأمس، الذين كانوا يتبادلون التنازلات ويقدمون التضحيات حباً بالوطن؟ ونتذكر ما حصل عندما انهارت الحكومة الأولى التي شُكلت في مستهل عهد الرئيس فؤاد شهاب فبادر خصمه السياسي العميد ريمون إده الى الاتصال به وساعده على تشكيل حكومة جديدة ضمت كل الأقطاب، ولم يتركه يقلّع شوكه بيديه ويتدبر أمره وحده، بل شعر بأن فشل الرئيس شهاب وهو في مستهل عهده ليس فشلاً له وحده إنما هو فشل للبنان ولمستقبل لبنان وأبنائه.

لقد بلغ الحقد والكراهية بين القادة في لبنان حدّ تبادل سياسة النكايات والتشفي، بحيث انه اذا تقدم أحدهم بمشروع حيوي يخدم لبنان سياسياً وأمنياً واقتصادياً يعارضه خصمه الآخر، ليس لأنه ضد هذا المشروع إنما ضد من تقدم به… واذا كان طرف لا يريد تسهيل انتخاب رئيس للجمهورية لأسباب شتى فيلجأ الى مقاطعة جلسات الانتخاب وإبقاء سدّة الرئاسة شاغرة الى أجل غير معــــروف ولا يبالي بمصير الوطــن والمــواطن، وإذا كان يريـــد عرقلة تشكيل حكومة لإطالة الأزمة يعمد الى وضع شروط تعجيزية.

هذا هو، ويا للأسف، واقع الممارسة السياسية في هذا الزمن الرديء وفي عهد قيادات تافهة، حتى إن أزمة النفايات التي تهم الجميع صار تسييسها وتطييفها إحراجاً للحكومة وجعلها عاجزة عن إيجاد حل لها فيدفع كل اللبنانيين من جراء ذلك الثمن بيئياً وصحياً. وعندما تولت الحكومة تنفيذ خطط أمنية في مناطق لا سيطرة لها فيها تركت وحدها في مواجهة المجرمين والمرتكبين وفرح الخصوم لفشلها في اعتقالهم، في حين أنه مطلوب من كل حزب قادر أن يساعد السلطة على اعتقالهم لأن هذا ليس واجب الحكومة وحدها بل واجب كل من يريد الأمن والاستقرار في كل منطقة. أفلا يجب أن يكون كل مواطن خفيراً عندما تتسلل عناصر مشتبه فيها الى الداخل لأن الدولة لا تستطيع وحدها مراقبة هذه العناصر وملاحقتها. لذلك فإن كثيرين عتبوا على قول الأمين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصرالله ان ليس للحزب ان يلاحق المجرمين والفارين من وجه العدالة ويسلمهم الى الدولة، بل إن هذه مهمة الدولة وحدها ولتتدبر أمرها… ولكن ماذا في استطاعة الدولة أن تفعل عندما يلوذ المجرم بزعيم أو طائفة أو حزب في منطقة خارجة عن سلطة الدولة؟ وهل من الوطنية في شيء أن يقاتل “حزب الله” في سوريا من دون تفاهم مع شريكه الآخر حماية لنظام الرئيس بشار الأسد ولا يساعد الدولة في لبنان على ملاحقة المجرمين والفارين من وجه العدالة لا بل يحميهم أحياناً؟

إن المشكلة في لبنان هي في أن فيه من يعتبر نفسه “أم الصبي”، وفيه من لا يعتبر نفسه كذلك فتصبح التضحية دائمة من طرف واحد، وقد لا تكفي هذه التضحية اذا لم يبادله الطرف الآخر بالمثل اذا كان لا يهمه بقاء لبنان أو زواله. وهو ما يحصل منذ عام 2005 لأن في لبنان قادة يعتبرون أنفسهم “أم الصبي” فيضحّون لكي يبقى حيّاً، وقادة يعتبرون أنفسهم “أمّـــاً مستأجَرة” أو “مستعارة” لا يهمها مصير الصبي.

لذلك فإن كتلة “المستقبل” أحسنت صنعاً بإعلان استمرارها في الحوار والبقاء في الحكومة الى حين تشاء، لأن الانسحاب من الحوار ومن الحكومة معناه تعريض البلاد لفراغ شامل تدخل الفوضى العارمة من أبوابه، وهذا ما يريده أعداء لبنان في الداخل والخارج، الذين يكونون قد حققوا ما يريدون من خلال غيرهم، ثم يحملونهم المسؤولية.