الإيرانيون يطالبون الأتراك بوقف عمليتهم العسكرية في عفرين والانسحاب من الشمال. والأتراك يطالبون الأميركيين بالانسحاب من منبج. والفرنسيون يطالبون الإيرانيين بالانسحاب مع ميليشياتهم المذهبية من كل سوريا. والأميركيون مثل الفرنسيين في مطلبهم سوى أنهم أكثر حضوراً وتأثيراً وفاعلية على الأرض.. وحدهم الروس لا يطالبون أحداً، ولا يطالبهم أحد بأي انسحاب أو حساب مع أنهم في صدارة الميدان والبيان!
في هذه التركيبة يغيب السوريون. السفّاح وضحاياه. يضمر حضورهم وتتوسع مقابرهم. وبعضهم لا يعرف أنه ميت برغم «حياته»! ولا يعرف أن شطارته في تعميق الحُفَرْ لا تعني أنه ليس من سكانها! أو ليست له الرياسة عليهم! وهي التي استحقها بجدارة لا يحسده عليها، لا عاقل ولا غاش!
الانفلات الاستثنائي الراهن في العمليات العسكرية، هو في بعض وجوهه، نتيجة لفشل المناورة السياسية الضخمة التي أجراها الروس في سوتشي. وعدم قدرتهم على تسويق دورهم الوسطي الموهوم.. استسهلوا دور الناظم لتقاطعات ملتهبة. والوصي القادر على ضبط إيقاع متنافر. واكتفوا بالثناء على حالهم واحتكار الفضل في ما رأوه «انتصاراً» فكبّروا الحجر وأساؤوا التقدير وتسرّعوا في الاستنتاج. وبدلاً من ربح «السلام» عادوا إلى اكتشاف مدى هشاشة «انتصارهم» المزعوم!
إسقاط طائرة السوخوي – 25 أصابهم بهلع لا يليق بادّعاءاتهم العسكرية.. مثلما كان استهداف قاعدة حميميم مدعاة صدمَة لا تليق بطموحاتهم واستعراضاتهم.. ردود فعلهم على الأمرين دلّت وتدلّ على رسوخ تجربة أفغانستان المرعبة في وعيهم. وعلى تأصّل مبدأ الأرض المحروقة في عقيدتهم القتالية، وعدم توقفهم (كثيراً!) أمام الأثمان البشرية التي تُهدَر، في الانكسار والانتصار على حدّ سواء! سقطت الطائرة وقُتِل الطيّار، فعادت غروزني إلى المشهد في غير موضعها. مجزرة تلو مجزرة من أرياف أدلب إلى حارات الغوطة الدمشقية. وحجم الانتقام يؤكد رعب الجلاد وهشاشته ومقدار ازدرائه بالحياة. تُستهدَف الأحياء السكنية من دون تمييز! ويدفع أطفال الغوطة ثمن الصاروخ الذي حطّم «السوخوي» مع أنهم لا يملكون حمل زجاجة حليب! ويدفع فقراء القرى الأدلبية أثمان تهتّك سمعة «القوّة الفضائية» الروسية، التي سبق التشاوف بنجاحها في «تدريباتها» السورية، مع أنهم لم يرتكبوا إلاّ خطأ الانتماء إلى «الأكثرية» المطلوب أن تبقى هامشية ومستحقّة حصرية للقب الضحية!
وبالقرب من الروس وتحت جناحهم يتابع بشار الأسد هوايته الغازيّة والكيماوية ويكمل دوره المتسيّد والطليعي في حفر المقابر.. وكلما لطمته إسرائيل على نافوخه «ردّ» عليها بتأكيد أولوية قتل السوريين على قتالها! والإيغال في تغييب أهل البلد لإتمام حضور الاغيار، وتمتين بنى شعار «الانسحاب» العربي الأثير.. والذي صار في النكبة الماثلة، شعاراً متعدد اللغات والجنسيات، ويرطن به كل حاضر في وجه غيره وكأنه الأصيل صاحب الأرض وغيره الطارئ والمعتدي!