قد يقول قائل: كيف يمكن لفنان أن يستبق زمنه، وأن يصمم طائرة، أو دبابة، أو آلة متقدمة تكنولوجياً، قبل مئات السنين من صناعتها الفعلية؟ كيف يمكن لفنان أن يتخيّل ما ليس موجوداً، وما لا تنبئ القدرات الصناعية لزمنه بقرب وجوده؟
سأقول لكم كيف: بنعمة الرؤيا التي يمنحها الخيال.
الخيال يخترع؛ يخترع الحياة والحبّ والجمال. ويخترع اللغة. والمستقبل.
ليس الخيال كذبة واهمة تذرّ الرماد في الأعين، وفي القلوب، وفي الأدمغة. إنه حقيقة مضافة الى الحقيقة. لولاه، لولا هذا الخيال، لكانت الحياة هي الحياة فحسب، ولكان التهمنا الضجر والملل من فرط العادة والتكرار فيها.
أن نخترع حياتنا لا أن نعيشها فحسب. هذه هي المسألة. أن نسافر في الحلم، الذي يستطيع أن يصل بنا الى مطارح لم يكن ممكناً، بدونه، التعرف اليها وملامستها وعيشها.
وهل كانت الحياة لتعاش لولا الاكتشافات؟ كاكتشاف إمكانات الصعود الى القمر والمريخ مثلاً؟ أو إمكانات “السفر” الى كل مكان، ليس فحسب بطائرة أو سفينة أو سيارة، وإنما أيضاً من خلال “دماغ” شاشة بسيطة موجودة أمامنا، كما هي حالي الآن، وأنا أكتب هذا المقال، وأرسله الى الجريدة، ليكون بين أيديكم وتحت أنظاركم؟
… والاختراعات التكنولوجية والعلمية والطبّية؟ والاختراعات الأدبية والفنية؟ وكيف كانت اللغات لتبقى حيّةً لولا الأدب الذي يتخيلها ويخترعها كل يوم، بالشعر والرواية وبالنصوص كلها، فيجعلها جديدة، كما لم تكن من قبل؟
هل من الضروري أن أذكّر القرّاء الأعزّاء بأن الخيال الأدبي مثلاً عند أغاتا كريستي، مؤلفة الروايات البوليسية الشهيرة، كان وراء اكتشاف الكثير من الألغاز المستعصية وراء أخطر الجرائم وأكثرها تعقيداً وسرّية؟ وهل من الضروري أن أذكّرهم بأن صورةً شعرية واحدة من شأنها أن تقلب مقاييس المعادلات الجوهرية في اللغة المتعارف عليها، فيصير، مثلاً، لهديل الحمام عطرٌ أين منه عطر الورود جميعها؟
وهل من الضروري أن أذكّر القرّاء الأعزّاء بالاختراع القلبي؟ هل كانت الحياة لتطاق مثلاً، لولا الحبّ الذي يجعلها أكثر وأعمق وأبعد؟ وكيف؟ بنظرة واحدة تخترع مشروعاً حياتياً لم يكن في وارد أحدٍ من طرفي المعادلة القلبية، وتخترع “منطقاً” يتحدى قوانين المنطق. بل تخترع حياةً هي الحياة بذاتها، بالقلب الذي يخترع لنا الشغف، وبالنظرة التي ترمي القتيل بسهم نظرة!
وهل ثمة ما ينجّينا، في خضمّ هذا العالم الهالك والمُهلِك، سوى الخيال؟
لولاه، لكانت الحياة موتاً في انتظار الموت.