في كل مرة تتكرّر مأساتنا، وتزداد الانقسامات بين مكوّنات شعبنا، نتذكّر فيلسوف الوطن، وفخر الأرز والوادي المقدّس، ونتحسّر على حالنا ونبكي.
كيف يُمكن بعد قرن تقريباً أن يبقى وطننا كما تركه جبران خليل جبران، وكما كتب عنه في «النبي»، «تكثر فيه المذاهب والطوائف ويخلو من الدين، يستقبل حاكمه بالتطبيل ويودّعه بالصفير، ليستقبل آخر بالتطبيل والتزمير، مُقسَّم إلى أجزاء وكل جزء يحسب نفسه فيه أمّة»…
كيف يُمكن لوطن لا يوجد في دستوره أيّ ذكر لطائفة أو مذهب، تتقاسمه مجموعة من الأحزاب الطائفية والمذهبية، ويحكمه خمسة أو ستة زعماء طوائفيّين؟ لو عرف «جبران» أنّ وطنه سيبقى على حاله مشلّعاً ومفتّتاً، غارقاً في نزاعاته وانقساماته، وشعبه لا يزال بعد قرن، يعتبر أنّ طائفته هي أمّته، وقبيلته هي وطنه، وبقي أبناؤه عشائر متباعدة ومتناحرة، وكل عشيرة تؤلّه زعيمها وتعتبره مُنقذها ومخلّصها، إن كان على خطأ أو صواب، لَفضّلَ الموت الأبدي تحت تراب أرض بعيدة جداً عن وطن الأرز، ولَما أوصى بنقل رفاته من أميركا إلى لبنان، وبأن تُكتَب هذه الكلمة على قبره: «أنا حيّ مثلك، وأنا واقف الآن إلى جانبك، فاغمض عينيك، تراني أمامك».
لقد حلم «جبران» بوطن سيّد وحرّ ومستقلّ، بوطن علماني وعصري ومتحضّر، لا يحكمه شيوخ قبائل وطوائف، ولا يُرهبه سلاح متفلّت لا يخضع لأيّ محاسبة، وطن مستقرّ وآمن ومزدهر، تسوده العدالة والمساواة… فأين نحن من حلم «جبران» ومن أحلام الشباب المثقف والمجتمع المدني الحر؟
منذ الإستقلال، وفي كل المحطات والأحداث الداخلية والإقليمية، كان الإنقسام اللبناني علامة بارزة من تاريخنا. توقفت الحرب سنة 1990، ولكنّ انقسام اللبنانيين لم يتوقف، وفي كل المراحل، كانت تُطلَق شعارات، يردّدها الناس عن جهل، إرضاءً لزعمائهم وشيوخ طوائفهم.
إستمرت الوصاية السورية ثلاثين سنة، مارست خلالها سلطة الوصاية أبشع أنواع القهر والتسلّط، ومع ذلك، كان فريق من اللبنانيين يرى وجود الجيش السوري «شرعي وضروري وموقّت»، وعندما انتفض الشعب على هذه المعادلة وعلى الوجود السوري غير الشرعي، قام قسم من اللبنانيين بمظاهرات لشكره وتأييد بقائه! هذا أنموذج فاضح عن عمق الخلاف بين اللبنانيين، وهناك ما هو أعظم.
اليوم، تعود من جديد لغة المعادلات والشعارات، وكأنه مكتوب علينا أن نعيش دوماً فـي ظلّ معادلةٍ ما، وتحت مظلّة خارجٍ ما. بعد حرب تموز 2006، طرح «حزب الله» معادلته الذهبية «جيش وشعب ومقاومة»، فأيّدها فريق من اللبنانيين، وعارضها فريق آخر، ولا زالت حتى اليوم موضوع خلاف وانقسام.
وبعد حرب الجرود، وطرْد التكفيريين والإرهابيين، ربطها «الحزب» بالمشروع الإقليمي المتمثّل في دول محور الممانعة، وأضاف على هذه المعادلة «الجيش السوري»! وعلى «نكزةِ» كان سيضيف على المعادلة الرباعية الجديدة، «الحرس الثوري الإيراني» حتى «يكتمل النقل بالزعرور».
فأين مصلحة الوطن أن يتمّ ربط الجيش اللبناني من ضمن معادلة تجمعه مع «الحزب» و»قوات النظام السوري»؟ لقد دفع اللبنانيون الكثير من الدماء والدموع للتخلّص من الوصاية السورية، فما الحكمة من إعادة إحياء تلك الوصاية بعدما دفنها الشعب اللبناني عام 2005؟
المشكلة الكبرى، أنّ بعض قادة هذا البلد لم يتعلّموا من تجارب الماضي والويلات التي حلّت بوطننا، ولم يأخذوا العِبَر من آلاف الشهداء الذين سقطوا خلال تلك الحروب العبثية، ويا للأسف، لن يتعلموا، لأنّ مصالحهم الخاصة والفئوية وارتباطاتهم الإقليمية والدولية تسيّرهم وترسم لهم الدروب والإتجاهات التي يسلكونها.
أمّا «شعوبنا» المُمذهَبة حتى العظم، والغارقة في الجهل والضياع، ستبقى هكذا، كما تركها «جبران»، تسير وراء شيوخ قبائلها، كما تسير قطعان الغنم والماعز وراء «كرّازها»، حتى وإن أخذها نحو الهاوية والموت.
لم يلقَ الجيش اللبناني دعم الشعب والسلطة السياسية في المعارك التي خاضها سابقاً، مثلما حصل في عملية «فجر الجرود»، ولم يحظَ يوماً على تأييد وتشجيع ودعم من كل الطوائف والمذاهب، كما حصل في العملية الأخيرة. فأيّ شعب نحن؟ وما هذا الجحود؟
حتى عندما ننتصر نختلف، ونتهم بعضنا البعض بالعمالة والخيانة وترتيب الصفقات. لِذلك، من حقنا أن نسأل: ما الحكمة، في هذه المرحلة بالذات، وفي لحظة يُفترض أن تكون للتوافق والتلاقي الوطني، والإلتفاف حول جيشنا البطل، الذي حقّق أعظم إنجاز في تاريخه، مِن طرح معادلات تستفزّ نصف الشعب اللبناني على الأقلّ، وإطلاق الإتهامات، وفتح ملف المحاسبة عام 2014؟
فبدل أن يكون التحرير الثاني الذي كتبه شهداء الجيش اللبناني وجثامين العسكريين، نقطة انطلاق للتآلف والوحدة ونبذ الخلافات، يتحوّل إلى تسابق عمّن يُعلن يوم النصر والتحرير، وإلى تراشق للاتهامات والتخوين، وتسخيف الإنجاز العظيم الذي تحقّق.
فريق يحمّل «حزب الله» مسؤولية ترك مسلحي «داعش» يفلتون من العقاب لقتلهم العسكريين، ويسأل: كيف يُسمح للمهزوم بأن يكتب شروط هزيمته؟ وفريق يحمّل الرئيس تمام سلام وفريقاً حالَ دون تنفيذ الجيش عملية تطهير الجرود من الإرهابيين في حينه. السؤال الذي يطرح نفسه: ما الفائدة من تبادل الإتهامات وتحميل المسؤولية للآخرين؟ وهل سيغيّر هذا الجدل العقيم من واقع الحال؟
أم أنّ المطلوب هو إبقاء البلد في حالة انقسام دائم، وعدم استقرار، وخوف، ليبقى السلاح غير الشرعي يسرح ويمرح في كل رقعة من أرض الوطن من دون حسيب أو رقيب؟
لو كنتَ حيّاً يا «جبران» ماذا فعلت؟ هل كنتَ تحمل سوطاً وتطرد هؤلاء السياسيين إلى خارج الحدود؟ أم تستنبط لهم نظاماً جديداً يستوعب انقساماتهم ويوقف حروبهم العبثية؟ وأيّ نظام يستطيع أن يجمع هذه «الشعوب» المتباعدة في الفكر والرؤيا والهدف؟ سؤال نوجّهه إلى علماء الإجتماع، لعلّهم يجدون ما نحلم به وما ينقذ ما تبقّى من وطن.
* باحث وكاتب سياسي