IMLebanon

المرأة تنتخب حريّتها والرجلُ سُلطتَه

 

سجّل عدد المرشحين والمرشحات للانتخابات النيابية (2018) رقماً قياسياً غير مسبوق، عند «الذكور» و«الإناث»، أي بنسبة اختلاف فارقة بين 2009 واليوم. فقد بلغ عدد المرشحين الذكور في تلك الدورة نحو 700، والإناث بعدد أصابع اليد الواحدة. الزيادة مشتركة، لكن من الصعب الآن تبين أسباب هذا التهافت، ولا دوافعه. قد يكون تبسيطاً للأمور إذا اعتبرنا هذه الظاهرة مجرد «تسابق» لتحمّل مسؤولية التشريع، والمحاسبة، ومراقبة سير الحكومة.. وقد يكون من المبكر أيضاً، ردّ هذه الزيادات الملحوظة (عند الجنسين)، إلى مجرد صحوة «ذاتية» محلية خصوصاً للمرأة اللبنانية. فالذكور كانوا وما زالوا يتسابقون، وحدهم، إلى مراكز السلطة، سواء التشريعية أو التنفيذية أو العسكرية أو الأمنية والنقابية والحزبية، مهووسين بالتنافس، والتراكض، في الميادين والحلبات التي يرون فيها تأكيد «ذكوريتهم» «المتميّزة» عن الإناثية، بل والمتفوقة عليها، بل والسابقة واللاحقة والأبدية لها. فهم يصنعون الإبداع، ويسنّون القوانين، ويحاربون في الجيوش والقوات الأمنية، ويقررون المعارك، ويجترحون السلم، ويحصدون ما يمكن حصاده من مردود في المسؤوليات، وفي الأنظمة، وداخل السلطة. طبعاً لا أقول إن «الذكور» هم «مبتكرو» البازارات والتسويات على صعيد الأحزاب والحركات السياسية، والاقتصادية، والتربية، والمشاريع، لكن أقول إن 90 في المئة من الأوراق موجودة في أيديهم.

 

بينما نجد، وفي هذه الأطر «الرسمية» أن للإناث حصة «الأقليات» غير المعترف بها، أقصد «الأقليات» بالمعنى الذي يمتلكن به شرعية المنافسة، وتأكيد الذات، وإظهار كفاءاتهن، ونجاحاتهن في مثل هذه المهمات «الوعرة»، الشوكية، التي لا يجيد «عبورها» سوى «الرجال الرجال». بمعنى آخر «الأقليات» التي لا يجد فيها الذكور المهيمنون حتى الآن «ضرورة»، ومنفعة، واقتداراً.. وحضوراً وإضافة. أي أن دورهن لزوم ما لا يلزم.

 

ديكورات

 

ربما ديكورات، ربما مجرد هوامش، أو حتى نوافل، ليتقابل كل هذا الإلغاء خطب الذكور تُدبّج حتمية مشاركة المرأة في كل الميادين، وصوغ النصوص البلاغية التي تمجّد وجودهن، ولزومهن، لاكتمال الدور الاجتماعي والسياسي. هذه «الغزليات» المنظومة نثراً وزجلاً، أجمعت على عزفها عندنا معظم القيادات وربما بلا استثناء. لكن وعندما نتفحص الواقع لا نجد سوى نائبة أو اثنتين في البرلمان، أو وزيرة واحدة.. كل عشر حكومات أو أكثر. ونجد أن اللوائح الانتخابية التي سبق أن ألّفها هؤلاء «العازفون» نشيد الأناشيد في المرأة، شبه خالية من النساء، أو ملوّنة أو مزيّنة بمرشحة أو إثنتين… أو في أفضل الأحوال خمس.. أي ما دون العشر!

 

خطابا الذكور

 

خطابان للذكور: واحد «شعبوي» في مديح «نصف المجتمع» وآخر حقيقي وواقعي يؤكد محاولات حذفها من المعادلات السياسية وسواها. في استبطانهم أن السياسة شأن الرجولة والعنفوان والذكاء المفرط، والصراعات.. وليست من شأن النساء. في ظاهرهم ما يعجز اللسان عن وصفه من آيات مديحهن.

 

هذه «الشيزوفرانية» تعني «انفصاماً» عمودياً في شخصية الرجل، أو نزعتين تتصارعان كيف أتنازل عن ذكوريتي إلى إناثية، دورها المثالي إنجاب الأطفال والعمل في مهن معينة، أو الطبخ والنفخ، وغسل أقدام رجالهن عندما يعودون «تعبانين» من أعمالهم الشاقة التي لا تجيد نساؤهم القيام بها؟ فهل هو رد عابر للمرأة اللبنانية في اقتحام حقها، أو انتزاع مكانتها، سواء ضمن كوتا هنا، أو أخرى هناك، أو بلا كوتا سوى ما يحققن بنضالهن. وهذه نقطة مهمة، قد تضاف إلى ما سبق، فالمرأة اللبنانية (وحتى العربية)، تمكنت، وفي مجالات كثيرة، من منافسة الرجل في «حدوده» المطوّبة المقدسة بل والتفوق عليه. تجاوزت العقبات «الممنوعة» كالجيش وقوى الأمن، والدفاع المدني والمؤسسات الاقتصادية والمالية والمصرفية والتربوية، والإدارات المختلفة في القضاء والمصانع والمهن والصناعات.. والجامعات والنقابات.

 

بأيديهن

 

بأيديهن ومهاراتهن، واختصاصاتهن، واجتراحهن النجاح، وتأكيدهن أدوارهن التي لا تحدها حدود التقاليد، ولا الأمراض الاجتماعية، ولا بعض الموروثات الاجتماعية والدينية، ها هن في ترشيحاتهن (111 مرشحة)، يعلنّ ضرورة إكمال دورهن في المجلس النيابي، وهو «القلعة الذكورية» المحروسة دونهن، والوزارات الممتنعة عموماً عن دخولهن، وهذا يوحي استمراراً لتجسيد الحداثة التنويرية التي تفجّرت في الثورة الفرنسية «مساواة المرأة بالرجل»، أو النهضة العربية وضرورة «تحرر» المرأة من القيود التاريخية، ومعادلة وجودها بوجود الرجل. (نتذكر قاسم أمين) ومعظم «الثورات» الإناثية التي أعلنها التنويريون والمتنورات، وخصوصاً في الفكر الحديث كسيمون دو بوفوار وكتابها «الجنس الآخر» وصولاً إلى دور المربيات والأدبيات العربيات.

 

الربيع العربي

 

لكن ألا يجدر هنا الكلام عن دور الربيع العربي الذي رأينا كم أن المشاركة الإناثية كانت فاعلة وشجاعة ومقتحمة، لا تقل عما فعله الشبان والرجال في الميادين، ولا يمكن تجاهل «الربيع اللبناني» وكيف كادت النساء تناصف الرجال في التظاهرة المليونية. إذاً، الميادين مفتوحة، والنضال التغييري للديموقراطية والحرية والسيادة والاستقلال مفتوحة أيضاً. وهنا كأنما يتأكد اكتمال «النصفين» أو «الجنسين» خارج المتوارث. ثورة داخل الثورة. ثورة الحرية داخل الثورة الإناثية: كأنما أكثر من تزاحم أحياناً، وأكثر من تنافس، بل استكمال العقد المتصل بالحرية، لا حرية اجتماعية أو سياسية أو فكرية أو فلسفية أو تربوية من دون حرية المرأة.

 

الشرعيتان

 

لا شرعية مكتملة لاستفراد الرجل هذه الأدوار المنسوبة إليه، من دون شرعية مشاركة المرأة. فكل نضال من دون المرأة مبتور. وتالياً، كل هيئة أو مؤسسة خاصة، من دون المرأة ناقصة. وتالياً كل برلمان أو حكومة أو لجان وزارية أو نيابية من دون المرأة، آتية من غياهب الكهوف والعقول المتخلفة، والاستثنائية، كأنما هناك لوحة جدارية ضخمة، تكتسب ملامحها وتلاوينها وموادها، أكثر فأكثر، في عمل دؤوب دقيق، حساس، بفرشاة شفافة، تعرف كيف تجمع من الخطوط ما يصنع الحكاية المفتوحة. أي أن تتقدم المرأة بخطى مدروسة ومليئة من كل ما يخدم قضاياها ومواجهاتها الوعرة، ودونيتها، واعتبارها مجرد «جارية» أو «لعبة جنسية». ونظن أن فضائح التحرش الجنسي التي فجرتها بعض نجمات هوليوود في وجه وينستاين (المنتج الملياردير)، وها هي تتحول «ثورة» عالمية، ضد استغلال الرجل للجنس الآخر، وقمعه، واغتصابه، بكل “رجولية” مظفرة مستنداً إلى أن المرأة أعجز من أن تقاوم أمام طغيان المهنة أو المال. (ترامب هو رمز آخر من هذه الرموز الاستعبادية).. وأعجز من أن تكون «انطيغون» التي قاومت طغيان الحاكم، والعائلة، والسلطة، وكانت من أولى الثورات النسائية القديمة. إنهن اليوم «انطيغونات» هوليوود، وميادين الوزارات والمناصب والبرلمانات يكشفن المستور، ويحفرن في عمق العلاقة بين الرجل والمرأة.

 

ايديولوجيا

 

لكن هل يتحول النضال الأنثوي إلى «ايديولوجيا»، تعلن فيها «فوبيا» الرجل، أو تجعل «الرجل» (أي رجل) عدواً، بحيث يكون الصراع هدفاً لحفر فجوة بينه وبين المرأة؟ هل ينحرف النضال إلى نوع من العبثية، أو إلى مجرد مواجهة مجانية مع الرجل؟ في جعل المناسبة بينهما مسألة غريزية، أي العودة إلى نقطة الصفر. فدور المرأة ليس في أن تحل محل «قرينها» أو تهزمه، أو تسعى إلى انتصارات وهمية. وهنا تتساقط الشروط الأساسية التي أدت بالمرأة اللبنانية (وسواها) إلى تحقيق إنجازات تاريخية، بكفاءاتهن، وقدراتهن، ومواصفاتهن الثقافية، والاجتماعية، والحضارية، والسياسية، بحيث تنتزع المرأة في مسارها، ما تسلح به من حضور لا يعززه سوى كونه رجلاً فحسب. لا خصائص. ولا اقتدار ولا مواهب، سوى ذكوريته، أتقع المرأة في هذا الفخ الذي نصبه الرجل لنفسه ولها، وهيمن، واستفرس، بهذه الصفة الفارغة، العنيفة، ونجح تاريخياً في إقصائها. بلا شروط سوى ما أورثته إياه التواريخ والأديان والتقاليد؟

 

فلو عدنا فقط إلى السنوات الخمسين التي شهد لبنان فيها حروب الجميع عليه، وتحكمت الميليشيات المختلفة في مصيره، قد نجد أدواراً للمرأة! منهن من حملن البندقية، وارتدين أزياء المحاربات، وسجلن «بطولات».. لكنهن، في المقابل، كنّ يحاربن في حروب الذكور، تحت سيطرة الذكور، تحت وحشية الذكور.. كنّ تابعات، وخاضعات لهم. القيادات وتقرير الأمور للرجال.. والطاعة لمرأة بل إمرة سوى أن تحول نفسها وقوداً لهذه الحروب التي دمرت «الرجل»، و«المرأة»، والقيم والإنسان.. انخراط المرأة في ميادين الميليشيات المذهبية، سواء بسلاحهن أو بمشاعرهن، أو بانتماءاتهن، هو خضوع للرجل، أو امتثال له، واستثمار لجنونه! وكم عرفنا من شؤون رجال الميليشيات، انماطاً من الاغتصاب، اغتصاب القاصرات والنساء، ثم قتلهن ورميهن أو إحراقهن.

 

الرجل الطائفي

 

حتى اليوم، إذا كانت المرأة ستوافي «الرجل» الطائفي والمذهبي والقائد (من إرث الميليشيات السابقة واللاحقة) والعميل، والفاسد، بمسائلها، وشروطها، فلن تكون سوى النصف الآخر الملوث بأمراض هذا الرجل، أو القرينة المسخ، بين هذه المسوخ. أي أنها تفقد طليعيتها، وتميّزها، وتسلحها بزمن جديد، تعمل فيه مع رجال كثيرين، لطي مواصفات ذلك الرجل الصافي في ذكورتها العنيفة البربرية.

 

من هنا، ومن حقنا أن نتساءل: هل يمكن اكتساب مساواة المرأة بالرجل في الانتخابات النيابية، إذا استعارت منه، كل ما استفرسها، واستثمرها، واستعبدها، أي صفات الحضور الفارغ؟ والأخطر أن تستخدم المرأة في هذه المناسبة، «انثويتها»، أي ضعفها، وهشاشتها، أو صفاتها «كجنس» فقط، لتنافس الرجل كأنثى (مجرد أنثى) تنافس رجلاً: «أنا إمرأة بلا كفاءات، ولا مواقع، ولا اختيارات، أنا صورة، مجرد صورة أو إطار لصورة: فانتخبوني!». من هنا لا بد من تساؤل: لماذا ترشحت هذه المرأة أو تلك؟ هل تحمل برنامج عمل؟ أفكاراً؟ تطويراً، رؤيا مستقبلية؟ زمناً جديداً، مدنياً، ثقافياً، تقدمياً، تجاوزياً، أي مختلفاً عما ألفناه من برامج الرجل الفارغة..

 

فالرجل يتقدم بذكوريته المبهمة، الشاغرة، فهل تقع المرأة في هذا المطب!

 

البرلمان مهمة نضال وعر، في ميادين التشريع، والقوانين، والدساتير، ومصير البلد، والحكومات، والرئاسات، والحدود، والسيادة… والاقتصاد، فهل سنجد نساءً يحملن من الكفاءات والشجاعة والعناد ما يجعلهن مثلاً ضرورة وطنية، وثورية…

 

هذا ما نحاول انتظاره، وتوقعه.

 

هل تجترح المرأة ما عجز عن تحقيقه الرجل؟

 

هنا مكمن التحدّي.