طالت حفلة «الزجل» الأخيرة حول «مكافحة الفساد» لأشهرٍ عدة، وشهدت تنافساً حاداً بين مختلف القوى السياسية، والآن حان وقت إمتحان الجدّية. فبعد 12 عاماً على البدء بإعداده، أقرّ مجلس النواب الثلاثاء المنصرم قانون مكافحة الفساد في القطاع العام وإنشاء هيئة وطنية لهذه الغاية، إذ إنه زمن تنفيذ توصيات الجهات المانحة ولا سيما منها المشاركة في مؤتمر «سيدر». لكن لا أهمية لهذا القانون إذا لم يُطبَّق، فالعبرة تبقى في التنفيذ، بدءاً من تعيين أعضاء الهيئة وتخصيص موازنة خاصة بها، وإلّا سيكون إقرار القانون إجراءً شكلياً على الطريقة اللبنانية لنيل رضى الجهات المُقرِضة.
في 2009 قُدِّم إقتراح قانون مكافحة الفساد في القطاع العام الى مجلس النواب، وأقرته لجنة المال والموازنة في 2018، وشهد الخواتيم التشريعية السعيدة بإقراره في الهيئة العامة لمجلس النواب، الثلاثاء.
الإهتمام الدولي الكبير بهذا القانون أدّى إلى إقراره، فالبنك الدولي والإتحاد الأوروبي وكل الجهات الواهبة في مؤتمر “سيدر” تعتبر أنّ إقرار هذا القانون وتفعيل عمل الهيئة يجب أن يكونا أولوية الدولة اللبنانية.
هذه التوصية الدولية أكّدها رئيس الحكومة سعد الحريري، في تغريدة قال فيها إنّ إقرار هذا القانون “هو خطوةٌ إصلاحية أساسية… تُساهم في استعادة الثقة وتنفيذ مقررات “سيدر”.
وتتالت تغريدات السياسيين وتصريحاتهم المنوِّهة بإقرار هذا القانون، في إنتظار مَن سيُترجم كلامه بطلب تخصيص موازنة خاصة للهيئة الوطنية لمكافحة الفساد في الموازنة التي تُدرَس حالياً في اللجنة النيابية المختصة.
وعلى رغم من أنّ هذا القانون الذي قدّمه النائب السابق غسان مخيبر إلى مجلس النواب، بعد أن أعدّته “مجموعة برلمانيون ضد الفساد”، ليس الأوّل في إطار منظومة القوانين التي تُكافح الفساد، إلّا أنّ أهميته تكمن في أنه يُشكّل الأداة لتنفيذ القوانين الأخرى، فالهيئة الوطنية لمكافحة الفساد هي مُحرِّك مكافحة الفساد، نظراً للإستقلالية والحصانات التي تتمتّع بها على ما ينص القانون، إضافةً إلى الوظائف التي تنفرد بتأديتها، وأبرزها 5 رئيسية:
ـ تفعيل قانون الحق في الوصول إلى المعلومات غير المُطبّق كما يجب، فالهيئة مسؤولة عن حسن تطبيقه.
ـ تفعيل قانون حماية كاشفي الفساد ومتابعته.
ـ تتلقّى الهيئة إتصالات المواطنين وشكاويهم وتسعى إلى معالجتها، وبعد التحقيق فيها تحيلها إلى الجهات التأديبية والقضائية المختصة، وتتابِع هذه الشكاوى حتى الوصول إلى خواتيمها وتعلن عن أعمالها.
ـ تتولى الهيئة مسؤولية تلقي التصريحات عن الذمّة الماليّة وتتابِع إقرار إقتراح تعديل قانون الإثراء غير المشروع، الكفيل باستعادة الأموال المنهوبة ورفع السرية المصرفيّة عن حسابات المسؤولين السياسيين والإداريين.
– الهيئة هي الجهة التي تعدّ تقارير سنوية خاصة حول الفساد وتوثّق هذه الحالات، وبالتالي هي مرصدٌ للفساد.
وفي حين فقد اللبنانيون ثقتهم بالدولة ومؤسساتها وإدارتها، تكمن أهمية هذه الهيئة أيضاً بأنها غير خاضعة أو تابعة لأيٍّ من سلطات الدولة أو إداراتها. فتتألف الهيئة من 6 أعضاء، تُسمّيهم أو تنتخبهم جهات مستقلة، وبعدها يختار مجلس الوزراء أعضاء الهيئة من الأشخاص الذين سمّتهم هذه الجهات. فعلى سبيل المثال، تنتخِب مجموعة قضاة من مستوى رفيع قاضيَين لعضوية الهيئة. بدورها، تسمّي نقابتا المحامين في بيروت وطرابلس ونقابة مدققي المحاسبة أشخاصاً بصفات معيّنة لعضوية الهيئة.
ويوضح مخيبر لـ”الجمهورية” أنّ “الهيئة من المُفترض أن تكون بمثابة مجلس حُكماء بعيداً من المحاصصات السياسية والطائفية، وبالتالي إنّ صلاحية مجلس الوزراء تنحصر بتعيين أعضاء تسميهم الجهات المستقلة المحدّدة في القانون، ولا يُمكنه اختيار أسماء أخرى”. ويضيف: “إذا كان لبنان جدّياً في مكافحة الفساد عليه الإستثمار في هذه الهيئة وتضمين الموازنة العامة بنداً خاصاً بتمويلها الحدّ الأدنى المطلوب والإسراع في تعيين أعضائها”. ويؤكّد أنّ “الجهات المانحة والمؤسسات الدولية ستُسائل الدولة إذا لم تُطبّق هذا القانون”.
ولكي يكون عمل الهيئة فعالاً وتنجح في مهمتها يجب أن تحظى بإمكانات بشرية ومالية، وتتطلّب فريق عمل من موظفين متخصصين، فإطار عمل الهيئة واسع وشامل ويُطاول كل الجهات والمؤسسات والموظفين في القطاع العام أو المتصلين به.
كذلك، فإنّ عمل الهيئة متعدّد ومتشعّب، فهي تستقصي وتجمع الأدلّة لإعداد الملفات، ولديها إمكانية كبيرة جداً لتعزيز دور المواطن كخفير على إدارات الدولة ومصالحها، فتحمي مصادرها ومقدّمي الشكاوى وتوفّر لهم الحوافز، من خلال تخصيص مكافآت لهم أو إعطائهم نسبة مئويّة من الأموال التي يوفرونها على الدولة.
وبعد أن تتحقّق الهيئة من أنّ الملف جدّي وتحضّره تحيله إلى الجهات القضائيّة والتأديبيّة المختصّة، من دون أن يتوقّف دورها عند هذا الحد، فهي تتابع الملف قضائياً، ويكون لها حق الإستئناف والتمييز في المحاكم المختصة.
أمّا بالنسبة إلى الموازنة المطلوبة لتأدية الهيئة هذه المهمات المُناطة بها، فيرى مخيبر أنها “لا تُقاس بأهمية هذه الهيئة وبمنافعها والأموال التي ستوفرها بسبب الهدر وسوء الإدارة والفساد المستشري”. ويشير إلى أنّ “الموازنة لم تُنجَز بعد، وأيُّ دولة عاقلة عليها أن تعمد إلى التوفير في موازنات عدة والإستثمار في هذه الهيئة التي ستوفّر عليها أضعافاً مضاعفة من المال العام”.
وقبل إقراره دُرس هذا القانون بنحوٍ تفصيلي مُعمّق وصيغ بمساعدة خبرات لبنانية ودولية. وعلى رغم من تأكيد النائب ياسين جابر الذي شارك في درس هذا القانون في لجنة المال، أهميته إلّا أنه يعتبره “غير كافٍ”، ويقول لـ”الجمهورية”: “الأهم هو تطبيق القانون، فقد سبق أن أقرّينا كثيراً من القوانين لكنّ الحكومات لم تُطبّقها”.
ويبدي جابر تخوّفَه من أن ينضمّ هذا القانون إلى لائحة القوانين غير المُنفّذة، والتي تساهم فعلياً وعملياً في محاربة الفساد. ويرى أنّ “لا يُمكن تحقيق إصلاحات إلّا بدولة قانون”.
إذاً “دقت ساعة الحقيقة”، ويكمن التحدّي بعد إقرار قانون مكافحة الفساد في تعيين أعضاء الهيئة وتخصيص موازنة لها، وإلّا “لا هيئة” و”لا مكافحة فساد” ولا مَن يكافحون..