IMLebanon

كلام في السياسة | لماذا حفظنا «هيبركاشير»؟!

يقول أحد المراقبين لوسائل الإعلام وتقنيات التواصل في فرنسا، إنه إذا أجري اليوم استطلاع المقيمين على الأراضي الفرنسية، حول سؤالين اثنين: أولاً: ما اسم المطبعة التي حوصر فيها الأخوان كواشي اللذان نفذا الهجوم الإرهابي على مجلة «شارلي هيبدو»؟ ثانياً، ما اسم المتجر الذي هاجمه الإرهابي الثالث، أحمدي كوليبالي، بعد يومين على مجزرة المجلة الساخرة؟ يجزم المراقب نفسه أن أكثر من تسعين في المئة من المستطلعين سيعلنون عدم معرفتهم باسم المطبعة. والأكثر من التسعين في المئة نفسهم، سيجيبون فوراً عن السؤال الثاني: «ماغازين هيبركاشير»!

طبعاً ليس التناقض بين الجوابين، على تطابق النسبة المقدرة نفسها من الناس، مسألة غير مفهومة. ولا هي عفوية طبيعية. ولا هي منطقية. والأهم أنها ليست مسؤولية المستطلعين. إنه مجرد درس نظري أكاديمي كامل في البروباغاندا الإعلامية، مع تطبيق فعلي شامل، عبر وسائل الإعلام وتطبيقاته المختلفة وتقنيات التواصل البشري كافة.

ذلك أنه فور وقوع الجريمتين، استنفرت وسائل الإعلام الفرنسية، على طريقة «القصف المركز». ملايين الرسائل الإعلامية من آلاف الوسائل، تتناول مجزرة المجلة، كما تتناول جريمة متجر الأغذية. مع فارق في مقاربة الخبرين: في الخبر الأول تركيز على أسماء الضحايا. مع إسقاط لأي تفاصيل أخرى. في الخبر الثاني تركيز مقابل على اسم المتجر، مع إرجاع لأي تفصيل آخر إلى مرتبة لاحقة. لماذا؟ بكل بساطة، لأن ثمة قاسماً مشتركاً بين أسماء بعض ضحايا مجزرة المجلة، وبين الدلالة الإتنية لاسم متجر الأغذية. بعض أسماء ضحايا مذبحة شارلي هيبدو يدل على انتمائهم اليهودي. تماماً كما اسم متجر الأطعمة، المخصص لبيع المأكولات التي يعتبرها أتباع الطائفة اليهودية حلالاً. هكذا، صار التركيز الإعلامي واضحاً، أو التلاعب في الرسالة الإعلامية المطلوب إيصالها بارزاً: اليهود هم المستهدفون. كل الباقي تفاصيل هامشية!

في الأيام التالية للجريمتين، استمرت تقنية «إنتوكس» نفسها، ومضمون التشويه الإعلامي ذاته (Desinformation). عشية تظاهرة باريس المليونية يوم الأحد الماضي، صار الخطاب المركزي في الفضاء الإعلامي المهيمن، كما لخصته إحدى وسائل الإعلام الفرنسية، كالآتي: لقد نفذ الإرهابيون هجوماً ثلاثياً على ثلاث من القيم الأساسية لمبدأ «الجمهورية» في فرنسا: أولاً على مفهوم السلطة، بقتل الشرطي الحارس لمكاتب مجلة شارلي هيبدو. ثانياً على حرية التعبير. ثالثاً على الجماعة اليهودية الفرنسية. تابع القصف الإعلامي تركيزه المكثف، عله يطحن «القيم» الثلاث. عله يمزجها في مفهوم واحد متساو في الجوهر. سلطة الجمهورية، مساوية لحرية التعبير، مساوية لحياة أي يهودي. مسألة صحيحة في الشكل. مشوهة في المضمون، والأهم أنها مجتزأة. فحياة أي يهودي، مساوية لحياة أي إنسان. وأي اعتداء على أي شخص، بمعزل عن لونه أو جنسه أو لغته أو دينه أو عرقه، يظل اعتداء يحمل مطلقية الجرم وكلية العدوانية، أكانت الضحية يهودية أم غير يهودية. لكن الأهم في التشويه المقصود في ذلك المثلث المخترع غب الطلب وبشكل فوري عقب الجريمتين: هل اليهود هم فعلاً المستهدفون بين المجلة والمطبعة والمتجر؟! أو على الأقل، هل ثمة استهداف لهم مساو لاستهداف «الجمهورية» في فرنسا، ولمفهوم «حرية التعبير»، كما تؤمن به تلك «الجمهورية»؟!

مسألة تثير أكثر من علامة استفهام، على أكثر من مستوى. خصوصاً عند طرح السؤال: من يقف خلف تلك الماكينة الإعلامية التلاعبية؟ ولأي أغراض؟ في الأيام التالية بدأت تظهر طبقات عدة لفرضيات الإجابة عن هذا السؤال. طبقة أولى سارع كل من فرانسوا هولاند وبنيامين نتنياهو إلى تظهيرها. وهي الطبقة الأكثر سطحية. وعنوانها الاستثمار الانتخابي. الرجلان في أزمتين شعبيتين في شارعيهما. والرجلان يواجهان استحقاقات انتخابية في مدى زمني متوسط. والرجلان يدركان أن أكثر أنواع الحبر الدامغ لأوراق الاقتراع الشعبوي، هو الدم. ثم إن الجرم قد وقع، والضحايا قد سقطت، فلماذا لا تكون «مفيدة»؟! حضر الاسرائيلي محيياً الجماهير. ثم نقل جثامين مواطنين فرنسيين لتوارى في أمكنة أقرب إلى صناديق الاقتراع الصهيونية. وحضر هولاند مصطنعاً قامة معدومة وهالة مفقودة، علّ الموت الجسدي ينقذ من الموت السياسي.

لكن طبقة أعلى من الفرضيات حول ما حصل، تعلو محاولة سياسيين مشرفين على الإفلاس رفع أرقام مؤيديهما بأي ثمن. إنها فرضية محاولة أخذ الجريمة إلى مكان آخر. حرفها عن مصدر الإرهاب الحقيقي، وسوقها إلى الاستثمار في هدف متخيل للإرهاب. وهنا تكمن خطورة ما حصل. ذلك أن أي محاولة كهذه، قد تؤدي إلى تحصين كيان عنصري، هو اسرائيل، على حساب اليهود كجماعة بشرية أولاً، وعلى حساب الشعب الفلسطيني ثانياً، وعلى حساب مبدأ الحق ومنطق العدالة ثالثاً. والأهم أنها تؤدي إلى كل ذلك، بدل معالجة مصدر الخطر وجوهر الإرهاب، الذي يمثله الفكر التكفيري الجهادي العنفي. محاولة كهذه تدفع فرنسا، «الجمهورية» والسلطة وحرية التعبير، إلى المبالغة في حماية جهة غير مهددة، فعلياً، بدلاً من مكافحة خطر داهم فعلي. وهو ما كانت ترجمته المباشرة نشر آلاف رجال الشرطة دفاعاً عن 717 مركزاً يهودياً في فرنسا. من دون البحث في كيفية مواجهة مئات الإرهابيين الذين «صدرتهم» سياسة الحكومة الفرنسية من أراضيها إلى سوريا، على سبيل المثال. كأن المطلوب هو استدامة الخطر، لا وأده، والاستمرار في استثماره، لا استئصاله.

معادلة تطرح طبقة ثالثة من الفرضيات: ترى من المستفيد من جريمة كهذه؟ّ! سؤال تجد نفسك مدفوعاً إلى طرحه بالمنطق، رغم أنك تكره بارانويا «نظرية المؤامرة»، وتعرف أن القاتل المباشر هو ذاك التكفيري.