IMLebanon

عمّال صباحاً تلامذة ظهراً… السوريون يلامسون أعداد اللبنانيين في المدارس

بلغَ عدد الطلّاب السوريّين المسجّلين في المدارس الرسمية اللبنانية حتى مطلع شهر تشرين الثاني نحو 65 ألف قبل الظهر، و130 ألف بعد الظهر. أرقام تكاد تُلامس عدد الطلاب اللبنانيين، بحسب إحصاءات وزارة التربية الخاصة لـ»الجمهورية». ويتوزّع التلامذة السوريون على نحو 313 مدرسة رسمية اختارتها الوزارة للعمل وفقَ دوامين. بين توقِهم إلى مواصلة تحصيلهم العلمي وحاجتهم إلى مردود مالي، ما عاد يُميّز هؤلاء نهارَهم من ليلهم، ليس لأنّ أوضاع بلادهم حرَمتهم الأحلام فقط، بل لأنّ «أهلي بيضربوني إذا ما جبتلّن مصاري».

يرنّ المنبّه عند السادسة صباحاً، يُهرول عباس (13 سنة) إلى عمله في «سناك» مُجاور للمدينة الرياضية، براتب 30 ألف أسبوعياً، فهو المعيل الوحيد منذ وفاة والده في سوريا وهروبهم إلى لبنان.

يُمضي هذا الفتى نحو 5 ساعات واقفاً على قدميه بين «لفّ السندويشات» وتقديم القهوة. وقرابة الواحدة يَخلع الوزرة عن خصره ويتوجّه إلى مدرسة «إبتهاج قدورة» في الجناح، حيث يتابع دراسته من الثانية بعد الظهر حتى الخامسة والنصف مساء، ثم يعود إلى عمله حتى الثانية عشرة منتصف الليل، بعدها يجرّ قدميه بما بقيَ لديه من قوّة إلى المنزل.

أمّا زميله بشّار (12 سنة) من حلب، فقد دفعته الحرب للمجيء إلى لبنان والعمل بـ «فكّ الدواليب» قبل الظهر. ويروي لـ«الجمهورية»، وهو يحاول إخفاءَ آثار الشحم عن يديه: «خسِرت 3 من رفاقي في حلب ونصف عائلتي، صحيح أنّ الله كتبَ لي عمراً جديداً ولكن صرتُ أخشى الحلم، أخشى من العودة إلى الشام، إلى حلب حيث الدم والدمار والويلات». ويضيف قبل أن يدخل إلى الصف: «أعمل بتصليح الدواليب لسداد مصروفي، أقلّه لتأمين بنطال ألبسُه إلى المدرسة».

250 لبنانياً و832 أجنبياً

تضمّ مدرسة إبتهاج قدّورة الرسمية «نحو 250 تلميذاً لبنانياً قبل الظهر، و832 تلميذاً سورياً بعد الظهر» بحسب مديرها الأستاذ عمر جعيد، ولكلّ تلميذ خصوصيته.

ويلفت جعيد في حديث لـ«الجمهورية» إلى «أنّ الوضع الاقتصادي المتردّي عاملٌ مشترك بين التلاميذ، إذ غالباً ما يدفعهم لتركِ المدرسة والبحث عن لقمة عيشهم». يتابع وعلاماتُ الاستغراب تغمر محيّاه: «أضِف إلى ذلك الاوضاع النفسية التي يتخبّطون بها، من تفكّك عائلي، العيش في غرفة واحدة، تشرّدهم…».

يختلف نمط عيش التلاميذ في تلك المدرسة وتتفاوت ظروفهم المعيشية، وحال من لم يفقد أهله في المعارك ليست بالضرورة أفضل، إذ غالباً ما يدخل محمد (11 سنة) الصفّ والكدمات تُشوّه ملامحَ وجهه «الطري»، وضربات «مدروزة» على جسده النحيل تبرز من خلف أكمام زيّه المدرسي. ولدى استفسار الإدارة عن وضعه، والاطمئنان عليه، كان ردّه، محاولاً حبسَ دموعه: «حرام البابا كان معصّب وفشّ خلقه».

أمّا ضياء فبقيَ لفترة طويلة يحضر إلى الصفّ وهو يعاني من حرقٍ بليغ في شفاهه بعدما عمدت والدته إلى إلصاق ملعقة الطبخ الساخنة بفمِه، كونه «في نظرها تلميذاً مشاغباً».

تلعب دور الجثة

قد لا يكفي الاستماع إلى شهادات التلاميذ السوريين لبَلورة صورة وافية عن يوميّاتهم، فكان لا بدّ من تأمّلهم في فترة استراحتهم في ملعب مدرسة عمر فخري الرسمية.

منذ اللحظة الأولى يبرز الكمّ الهائل من المشكلات النفسية التي يتخبّطون بها، ومدى تداعيات مشاهد المعارك السورية في نفوسهم. إذ يطغى اسلوب التعنيف على مختلف ألعابهم واعتماد العدائية في ما بينهم، وتحلُّ لعبة الحرب في صدارة خياراتهم، مرفقةً بحركة إطلاق النيران و«تقليد» أصوات الانفجارات والقنابل.

فيتسابق التلاميذ على أخذِ دور المقاتل، وقلّةٌ منهم ترضى بدور الضحية، الجميع يودّ المشاركة في تجسيد المعارك وتوصيف الأبنية المنهارة، وغيرها من المشاهد المأسوية.

إلّا أنّ لنغم لعبة مغايرة، غالباً ما تحبس بها أنفاسَ أساتذتها وتثير الرعبَ في نفوسهم، فيروي الأستاذ غسان الخطيب مدير المدرسة: «لفتَ انتباه الإدارة أمرُ فتاة لا تتجاوز السادسة من عمرها تتعمّد تمثيلَ دور الميت، فترمي بنفسها أرضاً لفترة طويلة سواء في الملعب، في الصف، في الممشى. بعد البحث والتدقيق في الموضوع، اكتشفنا أنّ والدتها قُتلت أمام ناظريها في سوريا، لذا تتعمّد التماهي بها في حركة موتها».

ويضيف: «لذا نسعى قدر الإمكان لتأمين لها ما أمكنَنا من إحاطة». ويلفت الخطيب في حديث لـ«الجمهورية» إلى أنّ «مشكلات التلاميذ تفوق عمرَهم وقدرةَ تحمّلِهم لها، ففي المدرسة نحو 850 طالباً لبنانياً قبل الظهر، ونحو 887 تلميذاً بعد الظهر، ولكلّ أسلوب في التعامل معه. لذا ضمن المواد الخمس التي نُدرّسها نُخصّص ساعات في الإرشاد التربوي والصحي والنفسي».

ليس حبّاً بالعِلم

يشكّل عدم تعاون الأهل مع إدارة المدارس عثرةً أساسية أمام التحصيل العلمي لأبنائهم، إذ يُجمع المربّون الذين التقيناهم على أنّ «معظم الاهل يرسلون أولادهم إلى المدرسة ليس إيماناً بالعلم أو عن قناعة، إنّما لافتقارهم إلى خيارات أو أمكنة أخرى يرسلونهم إليها».

كذلك قد لا يحضر الأهل إلى المدرسة رغم دعوتهم لإطلاعهم على وضع ابنِهم الدقيق، ومنهم من يأبى الاكتراثَ إلى واجبات ابنه المدرسية، ولا يحضّه على إنجازها، ممّا يُصعّب مهمّة التدريس على الأساتذة.

ويلفت أحد المدرّسين إلى سهولة تخطّي القوانين لدى بعض التلامذة، فيقول: «كأنّهم «أخدوا وِجّ وكتّرو»، يتعمّدون ارتكابَ الأخطاء أحياناً متطمّعين بمنظمة الأمم المتحدة والجمعيات الداعمة لهم، لذا نجد أنفسَنا مضطرّين لاستخدام النبرة الحازمة، وإلّا أضاعوا عمرَهم».

رسوماتهم تعبّر عنهم

تذهب المرشدة الاجتماعية ميرفت عيسى أبعد ممّا يُخبره التلاميذ أو يتصرّفونه، فتروي لـ»الجمهورية» عمّا يمكن أن تُخفيَه رسوماتُهم من معانٍ مبطّنة وأوجاع يَرزحون تحت ثقلها. «يشكّل فقدان الثقة بالذات جوهرَ مشكلاتهم، كذلك افتقادهم للحنّية، فمِن خلال تمرين بسيط، تبيّنَ أنّ التلميذات بين 6 والـ 12 سنة يكرهنَ «جاط الغسيل»، عصر الملابس على الأيدي نظراً إلى الظروف المعيشية واضطرارهنّ لمساعدة أمّهاتهنّ.

أمّا الصبيان من الفئة العمرية نفسِها، فتبيّن أنّهم يكرهون تعبئة غالونات المياه، نظراً إلى اهتمامهم بنقلِ المياه إلى منازلهم لمسافات طويلة». وتضيف: «أحدهم رسَم لي أقفالاً، وبعد الاستفسار منه، تبيّنَ أنه مجبَر على الاستيقاظ باكراً لفتحِ سلسلة من واجهات المحال».

ماذا عن الأصغر سنّاً؟ تُجيب عيسى: «معظم التلاميذ الصغار رسَموا لي أحزمة سوداء إشارة منهم لتعرّضهم إلى الضرب والعنف الأسري، وقد رسَم لي أحدهم «مشّاية»، دلالة إلى أمّه التي تضربه بها».

المستوى التعليمي مهدَّد؟

كيف تُواجه وزارة التربية تَدفُّق أعداد التلاميذ السوريين؟ هل مستوى التعليم الرسمي مهدّد؟ وغيرها من الأسئلة حملناها إلى مديرة وحدة إدارة ومتابعة تنفيذ برنامج التعليم الشامل صونيا الخوري في وزارة التربية، التي أكّدت «حرصَ الوزارة على توفير العلم، بصرفِ النظر عن جنسية التلميذ وهويته، وخصوصاً لمن هو في مرحلة التعليم الإلزامي أي مِن 6 إلى 15 سنة، وذلك من خلال برنامج وصول التعليم لجميع الأطفال RACE بالشراكة مع منظمات الامم المتحدة والجهات المانحة».

وتابعت: «إنطلقَ البرنامج منذ العام 2014 لثلاثة سنوات، وفي صيف 2016 عملنا على تحديد الثغرات، التحدّيات، وعدّلنا البرنامج حيث يجب، واستناداً لهذه التعديلات جدّدنا البرنامج حتى العام 2021».

وأوضَحت في حديث لـ«الجمهورية»: «ركّزنا العمل على 3 مستويات، تأمين مقعد دراسي لكلّ تلميذ، المحافظة على نوعية التعليم، تقوية النظام الدراسي على نحو يتمكّن من مواكبة التحدّيات في ظلّ توافُد الأعداد الهائلة للتلاميذ الأجانب».

وتَعتبر الخوري أن لا مفرّ من تحصين المستوى ومواجهة التحديات، «يكاد يلامس عدد الطلّاب غير اللبنانيين (65 ألف قبل الظهر، و 130 ألف بعد الظهر). في المدارس الرسمية عدد الطلّاب اللبنانيين (200 ألف مسجّل في مرحلة التعليم الاساسي)، وبالتالي لا يمكننا أن نرهق الأنظمة الرسمية في مدارسنا وأن نتلهّى باستقبال الأعداد الكبيرة من دون تطوير الأنظمة التربوية والمناهج وجعلِها أكثرَ تفاعلية، وإلّا خسرنا حتى التلاميذ اللبنانيين».

وتوضح: «لذا العملُ جارٍ على المستويات كافة، بدءاً من ترميم عدد كبير من المدارس وتجهيزها بما يواكب التطور، كذلك العمل على نظام تفاعليّ جديد، فبرنامج RACE2 الذي يمتد إلى العام الدراسي 2021 ركّز على ان تكون الخطة شاملة».

من المستفيد من هذه التحسينات؟ تجيب الخوري: «ركّزت المساعدات بداية على الطلاب غير اللبنانيين، إلّا أنّ الوزارة رأت أنّ ظروف الطالب اللبناني المادّية متواضعة، وحالُه ليست أفضل من التلميذ الأجنبي، فكان لا بدّ من أن يستفيد هو أيضاً من الجهات المانحة، من حيث تأمين الحقيبة، الكتاب المدرسي، القرطاسية، وغيرها».

وتضيف: «شغلنا مدارسنا بدوامين، واستحدَثنا ما سمّيناه روضة تحضيرية، على نحو يتمّ تحضير التلميذ وهو في الخامسة من عمره، ليتمكّن من التأقلم بسهولة في العام الاوّل أساسي، أي الصف الاوّل من التعليم الإلزامي».

cash program الحل؟

لا تنكر الخوري أنّه كلّما ارتفع الصفّ مرحلةً قلَّ إقبالُ التلامذة السوريين، فتقول: «حرصاً منّا على محاربة تسرّبِهم من المدرسة نَعمل على برامج لإبقائهم في المدرسة، منها برامج دعم مدرسي، أنشطة لا صفّية، ومنها برنامج cash program يتمّ فيه دفعُ مبلغ من المال لكلّ تلميذ يَحضر بدوام بعد الظهر، وهذا البرنامج مطبّق في منطقتين: جبل لبنان وعكّار، وإذا نجحَ سيتمّ تعميمه في مختلف المناطق».

وتضيف: «التلميذ تحت 9 سنوات يتقاضى 20 دولار في الشهر، ومَن تجاوَز الـ 9 سنوات يتمّ إعطاؤه 65 دولاراً في الشهر تتحوّل من اليونيسف إلى العائلة نفسِها، كحوافز تشجيعية».

في وقتٍ يتقاذف الأقطاب السياسيون حقيبة وزارة التربية والتعليم العالي، وتغيب حماسة معظمِهم عن توَلّيها، يتبيّن أنّه أيّاً تكن الجهة التي ستَرسو عليها هذه الحقيبة، فهي على موعد مع سيلٍ من التحديات، وإلّا ستكون «التربية» الوطنية في مهبّ الريح.