لم يُضف تقرير البنك الدولي عن بلوغ الانهيار الاقتصادي «أحد أعمق حالات الكساد المسجّلة في العصر الحديث»، واعتباره من «أسوأ ثلاث ازمات عالمية» شيئاً الى معاناة اللبنانيين ومخاوفهم. وإن قدّم لهم التوصيف العلمي والواقعي بالارقام والمؤشرات المالية، فإنّه لم يغيّر في أداء أركان السلطة شيئاً. فهم ماضون في اشتباكاتهم حول مصير وزيرين وحقيبتين، في دورة جديدة قاتلة، بحثاً عن انتصار وهمي على أشلاء شعب بكامله. فلماذا وصلنا الى هنا؟
قبل الغوص في الظروف التي دفعت البنك الدولي الى اطلاق التحذير الأكثر خطورة وشدّة، لا بدّ من اعادة التذكير بمجموعة التقارير التي صدرت عن المؤسسات الدولية المكلّفة التصنيف الائتماني للدول والمؤسسات، ومحاكاة الاوضاع الاقتصادية والنقدية التي تناولها صندوق النقد الدولي قبل 4 سنوات على الأقل، والتي تحدثت عن مؤشرات مالية واقتصادية ونقدية خطيرة جداً. وبدلًا من التوقف عند مضمونها وقراءتها بالجدّية المطلوبة، أمعن اركان السلطة في تجاهلها والاستمرار في السياسات المالية والإدارية التي قادت الى ما حذّرت منه هذه المؤسسات الدولية الكبرى.
وفي الوقت الذي عبّر عدد قليل من الخبراء الاقتصاديين عن مخاطر هذه التقارير والتنديد بالتوجّهات الرسمية التي تجاهلتها، فقد لجأ بعض السياسيين الى وضعها في خانة «الحرب الكونية» على أركان السلطة في لبنان، فاستمروا بلعبة المناكفات السياسية التي عطّلت كل الخطوات التي تحفظ مقومات الدولة وكيانها والمؤسسات، بعدما تحوّلت الخزينة العامة والمال العام الذي حوته من اسلحة تقاسم السلطة والنفوذ والثروة الشخصية، إلى ان بلغنا مرحلة الانهيار التي يعيشها اللبنانيون.
كان واضحاً انّ كل الاقتراحات والنصائح التي اعتمدتها مجموعة الدول الداعمة للبنان وتلك المانحة، القت اللوم عند الحديث عن الفشل في مواجهة الاستحقاقات الكبرى الى فقدان القرار السياسي المطلوب لاتخاذ مجموعة الإصلاحات التي كلّ المجتمع الدولي وملّ من تعدادها، من مسلسل مؤتمرات باريس الثلاثة، الى «سيدر 1» وما بينهما وما تلاهما من مجموعة الورش المالية التي خُصّصت للبحث في طريقة مساعدة لبنان. فالتوجّهات السياسية التي انقادت إليها البلاد نتيجة الخلل السياسي في الداخل وابتعاد لبنان الرسمي عن منطق النأي بالنفس عمّا يجري في محيطه والمنطقة. وهو ما وضع البلاد أمام استحقاقات خطيرة أدّت الى الانهيارات المتتالية على اكثر من مستوى، الى ان ترجمتها الازمات المالية والنقدية بمقدار كبير، فانهار الهيكل بكامله على اللبنانيين.
كان ذلك قبل ان تصيب الأزمات الاخرى الناجمة عن جائحة كورونا وانفجار مرفأ بيروت اللبنانيين مقتلاً، في ظل وجود حكومة تصريف اعمال تخلّت عن مختلف مسؤولياتها تجاه شعبها، عدا عن التخبط في مواجهة الملفات والقضايا الداخلية وصولاً الى مرحلة الشلل التي تسلّلت الى المؤسسات الادارية والدستورية والقضائية واحدة بعد اخرى، وفقدان الخدمات الاساسية التي ارتفعت كلفتها الى حدّ لا يمكن ان تتحمّله اكثرية الشعب اللبناني.
عند هذه الحدود يتطلع المراقبون الماليون كما السياسيون، إلى مضمون تقرير البنك الدولي. فقرأوا فيه إدراج اسم لبنان على صفحات كتاب جديد يتحدث عن تجارب «الفشل الدولية»، ووضع لبنان في المراتب الثلاث الدنيا في العالم، من أصل 10 عالمية عُرفت بهذه الصفات منذ القرن التاسع عشر. وكل ذلك يجري في وقت يواصل المسؤولون اللبنانيون مناكفاتهم على وقع «حروب صغيرة» و»وضيعة»، جعلت من آلام اللبنانيين وقوداً لطموحاتهم الشخصية الى درجة توسعت فيها رقعة المقاطعة الدولية والعربية والغربية.
ولا يستثني هؤلاء عند قراءتهم مجمل هذه المؤشرات المالية والاقتصادية الإشارة الى القطيعة الدولية التي بدأت تطلّ بقرنها والخوف من تعاظمها بسرعة قياسية. ويروي احد الديبلوماسيين الاجانب، انّه عقب طريقة تعاطي اللبنانيين مع «المبادرة الفرنسية» وتجاهل ما قالت به، ومعها نصائح الموفدين الدوليين، فقد الغى عدد من الموفدين الغربيين والاوروبيين تحديداً زياراتهم الى بيروت، ومنها تلك التي كانت مقرّرة للمفوض السامي للسياسة الخارجية في الاتحاد الاوروبي جوزف بوريل، لاستطلاع الأوضاع عن كثب، بناء على اقتراح وزير الخارجية شربل وهبة، قبل طلب تنحّيه عن الوزارة، وفي اطار تكوين مقاربة الاتحاد الاوروبي للأوضاع ككل، ضمن عنوان المساهمة البنّاءة لمساعدة لبنان. كما بالنسبة الى وفود صندوق النقد الدولي، التي حرص مسؤولوها الكبار على التعاطي مع بعض المسؤولين عند استشارتهم بالوسائط الالكترونية بدلّا من زيارة بيروت. وقد كان ذلك متوقعاً منذ ان جمّد الاميركيون زيارات وفودهم ومسؤوليهم الى بيروت بعد تجميد المفاوضات الجارية حول ترسيم الحدود البحرية في الجنوب، عدا عن القطيعة الديبلوماسية والاقتصادية والتجارية التي بدأتها دول الخليج العربي بعد عملية «الرمان المخدر» الى المملكة العربية السعودية، والتي لم تر حتى اليوم أي خطوة تشجعها على التراجع عن قرارها، رغم ربطه بعوامل واسباب امنية لا ترقى الى مصاف القرارات السياسية والتجارية.
وبمعزل عن هذه المعطيات الاقتصادية والديبلوماسية والسياسية المعقّدة والمتشابكة، رفع الخبراء الماليون من تحذيراتهم من مضمون تقرير البنك الدولي، ووجّهوا أكثر من دعوة الى مسؤولين في القطاعين العام والخاص والمصرفي خصوصاً، الى ضرورة استعجال الخطوات السياسية التي تعيد تكوين السلطات في لبنان، وأولها عملية تشكيل الحكومة، والتي ان لم تكن الحل كله، فهي الخطوة الاولى على الطريق المؤدي الى التعافي والانقاذ، وهو مطلب دولي اكثر مما هو محلي أو داخلي.
إلّا انّ واحداً من الخبراء الدوليين حذّر مسؤولاً لبنانياً من مخاطر الشلل في مجلس القضاء الاعلى وانعكاساته المترتبة على فقدان الحوكمة الرشيدة. والأخطر منها، الشلل في المجلس الدستوري الذي يعوق عمل المجلس النيابي الذي لا يمكنه التشريع في ظل غياب هذا المجلس، مخافة ان تتجدّد المخالفات الدستورية. فهم لم ينسوا بعد ما ادّى إليه تجميد العمل بقانون السلفة المالية لمؤسسة كهرباء لبنان – على الرغم من مخالفته ابسط القواعد الدستورية – فهي هدّدت قطاعاً حيوياً في لبنان يترنح على وقع الفشل في معالجة قطاع إنتاج الطاقة، رغم النصائح الدولية التي ضاعت في غابة الفساد والصفقات التي هدّدت علاقات لبنان بكبريات المصانع المنتجة للطاقة لمجرد تورط وزراء لبنانيين وموظفيهم الكبار في صفقة العمولات المكتشفة.
ختاماً، لا بدّ من اعادة قراءة تقرير البنك الدولي بنقاطه وما دلّت إليه المؤشرات المالية والاقتصادية لمواجهتها بالقرارات السياسية المناسبة. فهو في نظر المراقبين المحايدين أعظم شهادة بفشل أركان السلطة في ادارة شؤون البلاد، وإن بررها البعض بعدم توافر المقومات الإقتصادية والمالية للمواجهة، يبقى عليهم التعاطي معها بالحدّ الأدنى من المخارج السياسية التي على ما يبدو أنّها ليست في أيدٍ أمينة. ولذلك كله، ما عليهم سوى تحمّل تبعات مسلسل الجرائم المرتكبة عن سابق تصور وتصميم. وتبقى العقدة الحقيقية التي تطمئنهم الى المضي في غيهم، فقدان من يحاسب؟ أو سيحاسب ومتى وكيف؟