في كل تقارير البنك وصندوق النقد الدوليين، هناك عبارتان وكلمتان تُشدّدان عليهما وتتردّد في كل الفقرات وهما: أنّ الأزمة التي يُواجهها لبنان، «لا مثيل لها في العالم»، وهي «أزمة متعمّدة». سنسلسل في هذا المقال، مراحل هذه الأزمة، وكيف وصلنا إلى الواقع اليوم؟
إنّ بدء الحرب في سوريا في العام 2011، كانت لها إمتدادات وتداعيات مباشرة وغير مباشرة على لبنان، وقد أثّرت سلباً أيضاً على الإستيراد والتصدير على الحدود البرية وعلى أسعار النقل والتأمين. فدفع لبنان ثمناً باهظاً جرّاء النزوح السوري، وقد تمّ سحب العملات الصعبة إلى خارج الحدود.
ثم تطورت هذه الحرب واشتدت. ومنذ العام 2015 بدأ الحديث الصارم عن تطبيق «قانون قيصر» على سوريا. هذه العقوبات المالية والنقدية، أجبرت رجال الأعمال اللبنانيين على متابعة أعمالهم من لبنان، في ظل سحب العملة الخضراء، وبدأنا حينئذ نشعر بشح السيولة، فبدأ يهتز التوازن المالي والنقدي، لأنّ الإقتصاد اللبناني لا يستطيع أن يُموّل إقتصادين وشعبين. وهنا بدأت تتفاقم الضغوط على السيولة والأوراق النقدية.
نذكّر أنّه في العام 2016، حين أعلن، حاكم «المركزي» عن الهندسات المالية، لاستقطاب بعض الأموال من الخارج، بدأنا نسمع منذ ذلك الحين بعبارة «الفريش كاش». فهذا يعني بدأنا منذ ذلك الوقت، بأن نميّز بين الدولار الموجود في المصارف اللبنانية والدولار الموجود في الخارج. وكان هذا ناقوس الخطر الأبرز والرسالة غير المباشرة لما وصلنا إليه في العام 2019.
فالأموال الجديدة كانت تستفيد من فوائد تفوق الـ 18%-20%، لتشجيع إستقطاب أموال جديدة، أما الأموال التي كانت في المصارف التجارية المحلية، فقد كانت الفائدة عليها تُراوح بين 7% و8% على العملات الأجنبية. في هذا الوقت، كانت الفائدة خارج الحدود، لا تتجاوز الـ 1%. ونذكّر أنّ المصرف المركزي يدفع بالليرة اللبنانية وليس بالدولار الأميركي.
ناقوس الخطر الثالث حصل في العام 2018، بعدما قامت شركة «ماكنزي» الدولية، بمشروع إعادة الهيكلة وإحياء الإقتصاد اللبناني، وشدّدت على خمسة قطاعات إنتاجية، لزيادة الناتج المحلي وتقليص حجم الدولة، الأمر الذي لم يحصل حتى الساعة.
ناقوس الخطر الرابع، حصل في نيسان 2018، في «سيدر» – CEDRE، وهو يعني بالفرنسية «المؤتمر الإقتصادي للإنماء والإصلاحات مع الشركات»، الذي وعد بتدفق نحو 13 مليار دولار من الإستثمارات مشروطة بإصلاحات، ودفاتر شروط معينة مع تدقيق داخلي وخارجي. فاعتقد السياسيون بأنّ هذه الأموال ستأتي من السماء مثلما حصل في مؤتمرات (باريس 1 و2 و3) وغيرها. لكن هنا كان التحذير الأخير، أنّه من دون إصلاحات لن يُستثمر سنت واحد في لبنان.
أما ناقوس الخطر الأخير فقد حصل في العام 2019، عندما خفّضت مؤسسات التصنيف الدولية «فيتش» و«موديز» و«ستاندرد أند بورز»، تصنيف لبنان، من B- إلى CCC، والمعروف دولياً أنّ البلدان التي تُصنّف بهذا التصنيف المتدنّي، لديها 50% من فرصة إعادتها إلى الخط الصحيح، لكن هناك 50% مخاطر من أن تذهب إلى الإفلاس المالي، أي ما يُسمّى بالـ D (Default).
من التاريخ والخبرة، نعرف تماماً أنّ الإصلاحات وإعادة الهيكلة لم تكن في قاموس سياسيينا، وهذه المرحلة كانت الأخيرة للتحضير لمرحلة الإفلاس المتعمّد. وها قد وصلنا إلى تشرين 2019، حيث اشتعلت النيران، وانفجر الوضع المالي والنقدي والاقتصادي والاجتماعي، حيث كان من الممكن أن ينفجر في أي وقت كان، لأنّ كل المكوّنات كانت جاهزة، والنيران تحت الرماد.
والكارثة الأكبر لم تكن فقط في خلق أكبر أزمة مالية ونقدية داخلية، لكن الأسوأ كان في إدارة الأزمة حتى الساعة، من دون أي خطة إنقاذية وأي قانون يبصر النور، وأي إعادة هيكلة مبتكرة.
أما التاريخ الأسود، وهو الذي يجب أن نتوقف عنده، وهو في آذار 2020، حين أعلنت الحكومة اللبنانية رسمياً ما سُمّي بالتعثُّر المالي، (Financial distress)، وهذا يعني إفلاس البلاد المبطّن رسمياً. وهنا بدأ الهبوط إلى الجحيم وتدهور العملة. ونذكر بألم وأسف أنّه عندما أُعلن الإفلاس كان على الدولة اللبنانية مليار ونصف مليار في السنة، وتملك في إحتياطاتها اكثر من 30 ملياراً، وفي السنة عينها، أُفسد أكثر من 17 ملياراً بدعم وهمي لم ير منه اللبنانيون حبة دواء أو ليتراً من الوقود. فها هو الإجرام الإقتصادي الحقيقي، ومتابعة الأزمة المتعمّدة.
ومن ثم انتقلنا من تمويل المجتمع الدولي الإستثماري، إلى تمويل عبر مشروع صندوق النقد الدولي مع شروط صارمة، وصعبة، لم يعرفها السياسيون واللبنانيون قبلاً. فبعد توقيع الإتفاق المبدئي في نيسان 2022، لم يتحقق حرف واحد من هذا الإتفاق أو من الشروط المرجوة، فذهب الوفد اللبناني في أيار 2023 إلى واشنطن، وكل مجموعة تغني على ليلاها، وتتابعَ التسوُّل غير المنتج والمنظّم، والإقتصاد اللبناني تابع تدهوره في النفق الغامض نفسه.
في المحصّلة، ها هو تسلسل الخطوات التي أوصلتنا إلى ما نحن عليه اليوم، وكل نواقيص الخطر التي قرعت داخلياً، إقليميا ودولياً، لكن لا أحد منا كان يُمكن أن يتصوّر ويتخيّل أننا سنصل إلى هذا القعر المتدني والمخيف.
أُنهي وأُشدّد على أنّ في ظل هذه البيئة السوداوية لم ولن نستسلم، وسنبقى نناضل بشرف وشغف، لأن سرّ النجاح يكمن في المثابرة، ونحن مؤمنون بأنّ اليد الإلهية لن تتخلّى عن هذه الأرض المباركة.