يقف لبنان على حافة انهيار كبير٬ أو على بوابة انفجار مدمر؛ فبعد سنة ونصف من الفراغ الرئاسي٬ وشلل سلطات الدولة ومؤسساتها٬ على خلفية صراع سياسي جذري على كل شيء تقريًبا٬ وخصوًصا حيال الأزمة السورية٬ وبعد مائة يوم من غرق البلاد في النفايات٬ التي باتت تهدد بظهور الأمراض٬ تتسع الخلافات بين السياسيين على كل هذه المشاكل٬ ولعل هذا ما دفع رئيس الحكومة تمام سلام إلى مخاطبة المتظاهرين في 29 يونيو (حزيران) الماضي بالقول: نعم في لبنان نفايات سياسية كما فيه نفايات منزلية!
لكن الفوضى السياسية التي تمسك بخناق لبنان وصلت إلى أمكنة حّساسة وخطرة٬ وخصوًصا بعدما تأخر دفع رواتب العسكريين الذين يسهرون على الأمن في بلد محاط بالحرائق٬ لأن السلطتين التشريعية والتنفيذية معطلتان٬ ورئاسة الجمهورية في الفراغ٬ وهو ما دفع أحد السياسيين إلى القول: نحن أشبه بباخرة آخذة في الغرق بمن فيها٬ ولا من يسأل٬ أو بطائرة تهوي بمن عليها٬ وليس من يستيقظ!
يوم السبت الماضي قال رئيس الكتلة الاشتراكية في البرلمان الأوروبي جياني بيتيللا٬ خلال مؤتمر للأحزاب الاشتراكية الأوروبية عقد في بيروت حول قضية النازحين السوريين: «يستطيع لبنان أن يقدم مثالاً لأوروبا٬ والدرس الأول من لبنان هو أنه على أوروبا أن تخفف كثيًرا من شكواها٬ ففي لبنان هناك شخص من بين أربعة هو لاجئ وأكثر من ثلثيهما من النساء والأطفال».
لم يكن هذا كلاًما يستحق التصفيق٬ على الأقل بالنسبة إلى ممثل رئيس الحكومة٬ الوزير رشيد درباس٬ الذي سارع إلى الدمج بين عبء النازحين الثقيل والمنهك٬ والفوضى السياسية العارمة التي تعطل الدولة٬ وتشل العمل الحكومي٬ وتدفع لبنان إلى جحيم الدول الفاشلة٬ ولهذا لم يتردد في القول: إن سياسة الإنكار والتبرم والسلبية التي تسيطر على القرار اللبناني٬ لا تفضي إلا إلى مزيد من تعقيد أزمة لبنان الذي «تحّمل أكثر مما تتحمله دول الجوار كلها٬ بل أكثر مما تتحمله دول العالم».
وفي حين تبرز مخاوف أوروبية متزايدة من أن يكون لبنان٬ وهو الخّزان الأكبر لعدد المهّجرين السوريين٬ المنطلق المخيف لموجة لجوء جديدة٬ بسبب تراجع أوضاعه الاقتصادية٬ وفلتان أحواله الأمنية٬ يرى الوزير درباس أن الأوضاع السياسية الصعبة٬ والمعقدة في لبنان٬ بدأت تعاني من وطأة الوجود السوري في ظل هشاشة في البنية الدستورية٬ وأنه إذا استمر الضغط على هذه البنية فعلينا أن نتوقع أن لبنان قد يصبح شبيًها بمفاعل ديموغرافي قد ينفجر مثلما انفجر مفاعل تشيرنوبل في القرن الماضي٬ وعندها ستصبح السيولة والفوضى سيدتي الموقف٬ وسيدفع العالم بسبب هذا الثمن الباهظ.
عوامل الضغط التي يشير إليها درباس تأتي أولا من الآثار المدمرة للفراغ الثقيل والمتصاعد الذي يشل سلطات الدولة ويعّطل قراراتها٬ وثانًيا من الأزمة الاقتصادية التي يعّمقها شلل القرار السياسي٬ الذي أدى إلى تعطيل مشاريع٬ واتفاقات تتعلق بقروض دولية خسر لبنان عدًدا منها٬ وقد يخسر ما تبقى٬ وهو ما ينعكس سلًبا على قرارات الجهات المانحة٬ وخصوًصا البنك الدولي وفرنسا٬ اللذين باشرا إلغاء قروض للبنان تبلغ قيمتها مئات ملايين الدولارات.
فإذا كانت فرنسا قد ألغت في وقت سابق قرًضا بقيمة 5.46 مليون يورو كان مخصًصا لبناء مدارس٬ وآخر بقيمة 70 مليون يورو كان مخصًصا لقطاع الكهرباء الذي يعاني من الانهيار منذ عام ٬1975 فإن عدم قدرة البرلمان على التشريع وإقرار القروض بات يهدد الآن بإلغاء قرض فرنسي آخر قيمته 70 مليون يورو مخصص لمشروع معالجة مياه الصرف الصحي في منطقة كسروان.
الفراغ الرئاسي الناجم عن تمسك جماعة 8 آذار بتعطيل نصاب جلسات البرلمان لانتخاب الرئيس يتكرر منذ شهر مايو (أيار) من العام الماضي٬ ما لم يتم التسليم بالنائب ميشال عون حليف «حزب الله» مرشًحا وفاقًيا٬ وهو البعيد عن أبسط معايير التوافق عليه٬ وهذا ما يفضي إلى شل عمل السلطتين التشريعية والتنفيذية٬ وبات يهدد باستبعاد لبنان من لائحة الدول التي تحصل على القروض والمنح الدولية٬ ولهذا لا يتردد المدير الإقليمي للبنك الدولي فريد بلحاج في مناشدة المسؤولين اللبنانيين بالقول صراحة: استيقظوا!
استيقظوا٬ لأن الجمود في مؤسسات الدولة دفع البنك الدولي إلى إلغاء عدد من المشاريع المهمة على صعيد التنمية الاقتصادية في البلاد٬ في إشارة إلى قروض قيمتها 40 مليون دولار «استيقظوا٬ لأنه يجب فصل الجانب السياسي عن الجانب الاقتصادي والتنموي٬ وإلا سيكون لذلك عواقب خطيرة على البلاد».
هكذا بالحرف يتحدث بلحاج محذًرا٬ ولكن ليس من يسمع٬ على الرغم من أن البنك الدولي يحّذر لبنان منذ أشهر من أنه قد يخسر بشكل نهائي نصف قيمة محفظة القروض التي تبلغ قيمتها ملياًرا ومائة مليون دولار إن لم يصّدق البرلمان على الاتفاقات المتعلقة بها قبل 31 ديسمبر (كانون الأول) المقبل.
لمزيد من الإحباط٬ الذي يؤكد في رأي اللبنانيين صوابية نظرية تمام سلام عن «النفايات السياسية»٬ من الضروري أن نعلم أن الجزء الأكبر من مساعدات البنك الدولي يتعلق بمشروع قرض قيمته 500 مليون دولار٬ وهو مهدد بأن يحّول إلى دولة أخرى٬ رغم أنه أكبر قرض يقدمه البنك للبنان٬ وهو مخصص أصلا لتمويل سّد بسري في الجنوب٬ ومن شأنه أن يؤمن مياه الشرب والري لأكثر من مليون ونصف مليون لبناني!
يأتي كل هذا التخريب السياسي على لبنان واللبنانيين٬ في حين تنقل وكالة الصحافة الفرنسية عن الوزير درباس تأكيده أن خسائر لبنان منذ بداية الأزمة السورية قبل أربعة أعوام ونيف تجاوزت 20 مليار دولار٬ وهو ما يؤكده حاكم مصرف لبنان المركزي رياض سلامة٬ الذي يقول: إن كلفة اللجوء السوري المباشرة على الدولة تبلغ مليار دولار وغير المباشرة [تعُّطل السياحة والتصدير البري] ثلاثة مليارات ونصف المليار٬ أي ما مجموعه 5.4 مليار دولار في السنة٬ وهو ما يتلاقى مع دراسة أعدها البنك الدولي.
يوم السبت الماضي هدد أحد الضباط المتقاعدين الوسط السياسي بالقول ارفعوا أيديكم عن الجيش ورواتب العسكريين٬ وإلا نكسر أيديكم وأرجلكم٬ وبعد ساعات تم تدبير دفع الرواتب بتحويل من البنك المركزي على مسؤولية رئيس الحكومة٬ في انتظار إقرار التحويل في جلسة الحكومة التي تنتظر٬ ويا للفضيحة٬ أن يتم الاتفاق المستحيل على حل أزمة النفايات.. وكان الله في عون لبنان واللبنانيين