ما ورد في النشرة الفصلية للبنك الدولي عن لبنان يدلّ على أمر رئيسي، وهو أن النموذج النقدي في لبنان لم يعد قابلاً للاستمرار، بل حان الوقت لاستبداله بنموذج قادر على مواجهة حاجات لبنان المالية والاقتصادية. عجز الحساب الجاري هو المؤشّر المركزي في تشخيص البنك الدولي، فهذا العجز ارتفع من 17% من الناتج المحلي إلى 21%، «ما يترك لبنان مكشوفاً على مخاطر تمويلية جديّة»
المخاطر بدأت ترتفع في لبنان. الحديث هنا ليس عن المخاطر الأمنية ولا عن المخاطر السياسية، بل عن المخاطر المالية الناجمة عن النموذج النقدي المتبع. هذا التحذير مصدره النشرة الفصلية للبنك الدولي عن لبنان، التي صدرت أول من أمس، بعنوان “نداؤنا لكم”. ركّزت النشرة، في جزء أساسي منها، على ارتفاع عجز الحساب الجاري وارتفاع نسبة اعتماد لبنان على التمويل الخارجي، مقابل ضعف التحويلات واضطرار مصرف لبنان إلى اللجوء الى ما يسمى “هندسات مالية” لها تداعيات سلبية واضحة.
تتضمن النشرة ما يمكن اعتباره تحذيراً من استمرار النموذج المالي في لبنان، إذ إنه بات مستنزفاً من كثرة الاعتماد على التمويل الخارجي. ما هو واضح في هذه النشرة، أن ارتفاع عجز الحساب الجاري من 17% من الناتج المحلي الإجمالي إلى 20.9% يجعله من الأعلى عالمياً، علماً بأن هذا الحساب يدلّ على كمية الأموال التي دخلت الى لبنان والتي خرجت منه، ما يعني أن حاجة لبنان إلى الدولارات هي التي تتحكّم بمفاصل هذا النموذج وتجعل كل مفاصل الاقتصاد مفصلة على قياس استمرار هذه التدفقات لتمويل العجز التجاري وتمويل الإنفاق الداخلي أيضاً.
تشير النشرة إلى أن العجز التجاري وصل في نهاية 2016 إلى 15.7 مليار دولار وارتفعت الواردت لتبلغ 26% من الناتج المحلي الإجمالي، فيما «تتباطأ تحويلات المغتربين، علماً بأن التحويلات من الخليج هي مصدر أساسي لهذا التباطؤ، في مقابل ارتفاع قيمة التحويلات من لبنان إلى الخارج». وفي عام 2015 تراجع رصيد مصرف لبنان من الأصول الأجنبية الصافية بقيمة 2.4 مليار دولار، كما كشفت أرقام بنك التسويات الدولية عن أن المصارف كانت منذ 2012 تزيد توظيفاتها في الدين السيادي بالعملات الأجنبية، أي أنها قلصت أصولها في محافظها الخارجية ووظّفتها في الدين السيادي في لبنان.
نجم هذا الأمر عن تباطؤ التدفقات الرأسمالية منذ 2010، في مقابل نموّ حاجات الدولة إلى العملات الأجنبية، وهو ما أدّى إلى تراجع الاحتياطات لدى مصرف لبنان بنسبة 5.4% إلى 30.6 مليار دولار. إلا أن سبب عدم تدهور الاحتياطات إلى مستوى أقلّ، يعود إلى «ضعف الفوائد العالمية وبحث الأصول الأجنبية عن هوامش أعلى». وهذا يعني أن التدفقات المالية نحو لبنان استمرّت لأن أسعار الفائدة أعلى من الخارج، وهذه التدفقات تريد الاستفادة من أرباح إضافية مموّلة من الخزينة.
البنك الدولي يذهب أبعد من ذلك، كما لو أنه يذكّر بما قاله رئيس الجمهورية ميشال عون قبل أشهر عن عدم جواز الاستمرار في تثبيت سعر صرف الليرة بواسطة تعظيم الدين، إذ تضمنت النشرة الآتي: «الاستقرار في سعر صرف الليرة مقابل الدولار خلق فجوة سلبية، فالنموّ الحقيقي للاقتصاد يواصل تسجيل موقع متأخّر عن معدلات النموّ المسجلة بين 1993 و2014، ومتأخّر عن القدرات الفعلية للاقتصاد».
هكذا يبدو الحديث عن تثبيت سعر الصرف متصلاً مباشرة بالنتائج المسجلة في الاحتياطات المالية والعجز التجاري، إذ إن «الهدف من تثبيت سعر الصرف هو ضمان أن المصارف تجذب الدولارات لتمويل عجز الحساب الجاري. ففي ظل عجز واسع ومتواصل، وفي ظل قطاع مصرفي توازي ميزانيته المجمعة حجم الناتج المحلي بأربع مرات، فإن مصرف لبنان يعمل على ضمان استقطاب المصارف للودائع ويعمل على تلبية متطلبات القطاع العام».
القصّة واضحة، إن تثبيت سعر الصرف هو إحدى الأدوات التي تتيح لمصرف لبنان التحكّم بأسعار الفوائد لاستعمالها كقناة لاستقطاب التدفقات الرأسمالية من الخارج والتي تأتي بأشكال مختلفة؛ منها التحويلات من المغتربين، ومنها الاستثمارات الأجنبية المباشرة وسواها، لتغطّي عجز الميزان التجاري وحاجة لبنان إلى الدولارات لتمويل الاستيراد. هذا هو أصل النموذج في لبنان، أما الرابحون منه فهم معروفون؛ وعلى رأسهم المصارف التي تعدّ القناة الأساسية لهذه التدفقات، وهي التي تراكم الرساميل وتوظّفها لدى مصرف لبنان بأدوات تحقق لها ولكبار مودعيها أرباحاً كبيرة.
ما قاله البنك الدولي بلغة تقنية متخصصة، هو أن النموذج اللبناني مكلف جداً وهو يعتمد بشكل كبير على التدفقات المالية من الخارج وأنه لم يعد قابلاً للاستمرار في ضوء تباطؤ هذه التدفقات. هذه الكلفة لا تقع على الخزينة فقط، بل لها أوجه كثيرة؛ من أبرزها أن الثقة هي العنصر الذي يجذب التدفقات، وبالتالي فإن قناة التدفقات الأساسية، أي القطاع المصرفي، يجب أن تبقي على مستوى سيولة مرتفع من أجل الحفاظ على هذه الثقة، فيما هذا الأمر يخفف من أرباحها، ولذا، فإن برامج التحفيز الإقراضي من شأنها إبقاء معدلات نمو الأرباح ضمن مستوى «الثقة»، وهو أمر يتطلب في أحد جوانبه إغراق الأسر بالقروض. اليوم، يحذّر البنك الدولي من مستوى ديون الأسر، مشيراً إلى ضرورة الانتباه من «حدود نسبة ديون الأسر مقابل قياس احتمالات التحسّن الاقتصادي».
عام 2016 كان الأكثر ترجمة لأزمة هذا النموذج، فالعنصر المسمى “ثقة” لم يعد كافياً لتلبية حاجات الدولة من الدولارات، بل بات يستنفد كل الاحتياطات المكوّنة على مدى السنوات الماضية والتي جمعها مصرف لبنان بكلفة هائلة، فما كان من مصرف لبنان إلا أن حفّز التدفقات الرأسمالية من الخارج. وفق توصيف البنك الدولي التقني، فإن مصرف لبنان «نفّذ عمليات مالية كبيرة الحجم وعلى نطاق واسع، وهي فرضت تحولات ديناميكية في القطاع المصرفي على المدى القصير. الميزانية المجمعة للمصارف ازدادت في نهاية كانون الثاني 2017 بنسبة 9.8% مقارنة مع معدل نموّ نسبته 6% خلال السنوات الخمس الماضية. نسبة الميزانية للناتج ارتفعت من 395% إلى 430%. تُرجمت العمليات المالية بزيادة أو تقلّص محافظ المصارف لسندات الخزينة وسندات اليوروبوندز. هذه العمليات كان لها أثر على سيولة المصارف بالليرة اللبنانية، وهو ما ولّد تحديات في إدارة السيولة. كذلك أدّت هذه العمليات إلى زيادة انخراط المصارف في الدين السيادي بالعملات الأجنبية، وهو أصلاً دين يحمل الكثير من المخاطر». من نتائج هذه العمليات (السوابات) أنه «للمرّة الأولى منذ 2010 تحوّل رصيد الأصول الصافية الأجنبية المتراكمة لدى مصرف لبنان إلى إيجابي، وازداد هذا الرصيد بقيمة 1.2 مليار دولار. السوابات أدّت إلى زيادة التدفقات الرأسمالية بنسبة 44% في 2016، علماً بأن الاقتصاد يعتمد على هذه التدفقات بشكل بنيوي لتمويل عجز الحساب الجاري. وقد حققت هذه العمليات أهدافاً متصلة بتكوين احتياط بالعملات الأجنبية قيمته 34 مليار دولار في نهاية 2016 وهي توازي 12.9 شهراً من الاستيراد».
من تداعيات العمليات المالية أيضاً، التي نفذها مصرف لبنان، أنه لا يمكن توقّع نتائجها البعيدة المدى. فبحسب البنك الدولي: “لم تتضح طبيعة المفاعيل الأبعد لهذه الهندسات التي أعطت المصارف أرباحاً استثنائية، وأتاحت لها استقطاب تحويلات مالية من الخارج»، ويؤكد البنك أن «هذه العمليات ليست مقبولة من السوق، وهي تخلق سيولة كلفتها مرتفعة على المدى الطويل، رغم أنها تشجّع المصارف على الاحتفاظ بالأصول المحلية».
على أي حال، يقول البنك إنه «في ظل غياب الحكومة، فإن مصرف لبنان يسعى إلى ضبط الطلب ويؤدّي دوراً متعدّداً للحفاظ على الحدود المالية في السوق (سواء من خلال الهندسات والعمليات المالية أو من خلال برامج التحفيز أو من خلال أدوات مالية لاستقطاب الدولارات وإبقائها في لبنان). وفي النتيجة، فإن الديون السيادية لدى المصارف لا تزال مصدر مخاطر ملحوظة».
إذاً، رغم كل هذه العمليات المعقدة التي ينفذها القيّمون على هذا النموذج لحمايته والحفاظ على استمراريته بكلفة باهظة، إلا أن توقعات البنك الدولي ليست متفائلة، فهو يشير إلى أن «العجز سيبقى بمستويات مرتفعة، وأن الضغط على الحساب الجاري سيبقى قائماً، فيما تستمر الضغوط على السلطات المالية والنقدية للبحث عن مصادر تمويل بالعملات الأجنبية، وستتواصل الضغوط على معدلات الفوائد بعدما عادت الفوائد العالمية إلى منحى الارتفاع، أما التوقعات للنمو في 2017 فهي تقدّر بنحو 2.5%».