Site icon IMLebanon

حرب عالمية تنتظر رقمها

 

وزير خارجية ليبيا ومندوبها الأسبق لدى الأمم المتحدة

تتدفق الأحداث السياسية والعسكرية والمالية عبر القارات. الولايات المتحدة تبقى المحور الصانع للتحولات الكبيرة داخلها وخارجها. الجدار الذي يصرّ الرئيس دونالد ترمب على تشييده بين بلاده والمكسيك تحول إلى معركة متعددة الجبهات. الفرز السياسي بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي صار خريطة ترسم ملامح المرحلة المقبلة على أكثر من مستوى، فقد كان فوز الديمقراطيين بالأغلبية في مجلس النواب كابحاً لاندفاع الرئيس الجمهوري. الجدار على الحدود المكسيكية هو الموقعة الأعنف بين الطرفين. إعلان الرئيس حالة الطوارئ كي يتمكن من تجاوز اعتراض النواب على تخصيص المبلغ الذي يطلبه لتمويل المشروع، كان البوابة التي ولج منها السياسيون ووسائل الإعلام إلى مرحلة فتح ملفات مرحلة حاضرة وقادمة. الرئيس ترمب أراد أن يقول للجميع إنه لن يتراجع عما قدمه في برنامجه الانتخابي مهما كان حجم المعارك ومداها وبأي ثمن. القضاء سلطة ضاربة لا تغيب عن أي معركة أميركية، فقد رفعت أكثر من 10 ولايات قضايا ضد إعلان حالة الطوارئ، وتسابق السياسيون ووسائل الإعلام في الاندفاع إلى حلبات الجدل. ما هو الانعكاس السياسي لهذه المعركة على انتخابات الرئاسة القادمة؟ ذلك هو العنوان الذي ستكتبه مجريات المعركة الجدارية المكسيكية. المعارك الداخلية لا تغلّ عقل الرئيس ترمب ويديه عن فتح جبهات قريبة وبعيدة. فنزويلا الدولة الأميركية اللاتينية لا تغيب عن ردهات العمل السياسي الأميركي إلا لكي تعود إليه بقوة. الصدام السياسي بين الدولتين هو عنوان لمعارك لا تغيب، وإن هدأ صوتها، فالولايات المتحدة لها خرائطها الأمنية التي تعيد رسمها على أوراق قديمة، فأزمة الصواريخ السوفياتية في كوبا، التي وضعت الدنيا على حافة الهاوية وقرعت طبول الحرب النووية بين القوتين العظميين في عقد الستينات من القرن الماضي، هي من مكونات العقل السياسي الأميركي. الدول العظمى ترسم دوائر مصالحها بحبر القوة التي تشير إليها قرون استشعارها الأمنية. الوجود الروسي والصيني المتعاظم في فنزويلا يدخل في دائرة الحساسية الأميركية، ليس من المنظور التجاري فقط، بل بحسابات استراتيجية شاملة. هذه المعايير تنطبق بالقدر نفسه على الرؤية الروسية، فعندما تحرك حلف الناتو مقترباً من الحدود الروسية أعادت موسكو ترتيباتها العسكرية، وقامت دون تردد بقضم جزيرة القرم من الكيان الأوكراني، واندفعت بكل قواها العسكرية إلى سوريا في أكبر حرب تخوضها روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، الذي ترنح في أفغانستان قبل أن ينهار من داخله. هل تكون فنزويلا هي سوريا الأميركية؟ نعم، وإن كان السلاح في هذه المواجهة من عيار آخر.

الأزمة الإنسانية ذات الجذور الاقتصادية التي تعيشها الدولة الغنية نظرياً بثروة تائهة بين حفر الشعارات والفساد والهيمنة العسكرية، حركت رئيس البرلمان الشاب غوايدو، فتح معركة سياسية ضد الرئيس مادورو، وجرى تدويلها بسرعة حيث أعلنت أكثر من 50 دولة عبر العالم تأييدها لغوايدو في حين اصطفت روسيا ومعها الصين وإيران وبعض دول أميركا اللاتينية إلى جانب مادورو. الرئيس الأميركي تحرك في كل من البرازيل وكولومبيا سياسياً ووجّه خطاباً متعدد الأصوات، من دفع المساعدات الإنسانية عبر كولومبيا، إلى التلويح بالعمل العسكري المباشر. طبول الحرب لها رنين في أكثر من قارة، لكن ما ارتفع منها في الأيام الماضية يوحي بتطورات ساخنة بين العملاقين أميركا وروسيا، لقد صار الصدام استراتيجياً بعد أن أعلنت الولايات المتحدة إيقاف العمل باتفاقية الحد من الأسلحة الصاروخية، التي وقّع عليها الرئيسان غورباتشوف وريغان عام 1989، وكان ردّ الرئيس الروسي بوتين نصف إعلان حرب، وعند حديثه أمام البرلمان الروسي هدد علناً بحرب نووية ضد أميركا، وقدم عرضاً تفصيلياً للقدرات التسليحية الروسية. إننا أمام برزخ بوتين – ترمب، الذي يعيد إلى العقول أزمة خليج الخنازير بين خروشوف وكيندي في ستينات القرن الماضي. أوروبا حليفة الولايات المتحدة لم تبتعد عن أجواء الشدّ بين العملاقين، أرسلت إشارات تؤكد قوة التحالف الذي شهد توترات بين جناحيه مؤخراً.

اللاعب الجديد في الخضم المضطرب هو جمهورية الصين التي لم يسبق لها الدخول في المعارك الدولية الكبيرة. بعد بزوغها كنمر اقتصادي اختارت الابتعاد المحسوب عن الصراعات الساخنة والباردة، لكنها لم تعد تخفي مواقفها التي تتماهى مع التوجهات الروسية في سوريا وفنزويلا. من يمتلك القوة عسكرية كانت أم اقتصادية لا بد أن يلوح بها كي يعبر إلى منطقة العظمة السياسية الدولية، هكذا تتحرك الصين الجديدة إلى منصات الصراع الدولي كي تعلن عن امتلاكها أوراق القوة.

خرائط إقليمية ودولية ترسم بسرعة وقوة في كل مكان، لكن السؤال هو، هل ستكون الأقلام عسكرية أم سياسية أم تجارية؟

حلف الناتو يبني قوساً عسكرياً حول روسيا الاتحادية، بتمدده في رومانيا وأوكرانيا وبولندا، فهل تريد موسكو القيام بعملية إنزال سياسي وتجاري خلف الخطوط في أميركا اللاتينية، وتقترب من المجال الأمني الحيوي للولايات المتحدة، ويكون العالم أمام أزمة الصواريخ الروسية في كوبا، لكنها في فنزويلا هذه المرة؟ قد تكون الأزمة هذه اليوم أكبر وأخطر. اختلفت الأسباب وتنوعت القوة الحربية للأطراف المتواجهة، مع وجود رئيسين في الكرملين والبيت الأبيض بمواصفات تختلف عن تلك التي كانت لدى من سبقهما، وبروز الصين كقوة ضاربة تتحرك بهدوء ولكن بقوة ذات أبعاد دولية، وتقتحم مناطق لم يكن لها وجود فيها، في أفريقيا وأميركا اللاتينية. في أوروبا يضطرب المزاج السياسي وتنشغل بقضاياها، من خروج بريطانيا من الاتحاد، إلى التلاسن بين إيطاليا وفرنسا، واتساع دائرة الحراك الشعبوي، وبروز اليمين في بعض دولها، ما يضعف دورها الدولي ويغيّب قرارها الواحد في خضم دولي ساخن. لقرون طويلة كانت أوروبا هي القائد للسياسة والفكر على المستوى العالمي، لقد تراجع دورها منذ الحرب العالمية الثانية.

الحرب العالمية التي تدور اليوم بين قوى تمتلك أسلحة دمار شامل رهيب نسمعها ونتابعها، وإن كنا لا نرى دخان مدافعها، هي حرب من نوع آخر في عالم بقيادات من صنف جديد. حرب تنتظر رقمها على قائمة الحروب التي شهدها العالم، وتحديداً في القرن الذي مضى.