Site icon IMLebanon

أقبح من ذنب!

على سبيل الفكاهة، كان الدكتور طه حسين يقول إنه سوف يرصد جائزة، لمن يستطيع أن يفهم كتاباً واحداً من سلسلة كُتب عبقريات عباس العقاد، وكان العقاد في المقابل يقول، مُتفكهاً، إن الدولة إذا أرادت محاربة الشيوعية، نشرت كتبي، وإذا فكرت في مواجهة دعوات الإلحاد، التي يتبناها الفوضويون، أذاعت مؤلفاتي، فإذا سألوها أن ترشح أحداً لجائزة نوبل، رشحت طه حسين!

وعلى سبيل الجد، لا الفكاهة، يتمنى المرء وهو يتابع صفقة ما صار يُعرف إعلامياً بأنه «دواعش القلمون»، لو أن جهة في أي مكان من عالمنا العربي، أو حتى خارجه، قد رصدت جائزة لمن يتمكن من فهم الصفقة، أو استيعاب أبعادها، أو هضم تفاصيلها!

إن دواعش القلمون، لمن لا يعرف، هُم عناصر في تنظيم داعش، عقد معهم «حزب الله» صفقة يخرجون بموجبها من الحدود السورية اللبنانية، حيث كانوا موجودين قبل عقد الصفقة، في مقابل حصول الحزب على جثامين أربعة من مقاتليه لدى التنظيم!

تتطلع أنت إلى الصفقة من أي زاوية، فلا تعرف كيف يمكن أن تتم هكذا على الملأ، دون أن يحس أطرافها بأن كل الذين تلقوا أنباءها في وسائل الإعلام، قد وقعوا في حيرة لا حدود لها، وكان سبب الحيرة أن الذين تلقوا أنباء الصفقة، وقت الاتفاق عليها، ثم إعلانها، يسمعون دائماً أن «داعش» تنظيم إرهابي، وأنه، كتنظيم، محل مقاومة، ومطاردة، وملاحقة، من كل جهة مختصة في المنطقة، ومن كل جهة خارجها.

سمعوا عن هذا دائماً، وصدقوه، وأيقنوا فيه، فلما جرى الإعلان عن الصفقة، تبدد ما سمعوه من قبل كله؛ لأن الاتفاق كان على أن تخرج عناصر التنظيم في 17 حافلة مجهزة، ومكيفة، من حدود لبنان مع سوريا، إلى منطقة البوكمال الواقعة على الحدود السورية العراقية!

وما حدث أن الحافلات السبع عشرة، قد غادرت منطقة الانطلاق، وهي تحمل 300 من عناصر «داعش»، و300 آخرين من أفراد أُسر هذه العناصر، في اتجاه البوكمال شرق سوريا، برعاية من نظام حُكم بشار الأسد، وبتوافق مُسبق بينه وبين «حزب الله»! وفيما بعد انطلاق قافلة الحافلات بأيام، تردد كلام قوي عن أن طهران كانت هي كذلك ترعى عملية انطلاق الحافلة حتى وصولها إلى محطة النهاية، حيث يوجد التنظيم منذ بدء ظهوره، في غرب العراق وفي شرق سوريا معاً!

والمؤكد أنك ستكون في حاجة إلى كثير من العقل، وكثير من الصبر، وكثير من الجهد، لتستوعب الموضوع في الأقل القليل منه، إذ الوارد أن تجري عملية من المقايضة بين الحزب وبين التنظيم، فيحصل هذا على جثامين لمقاتليه، ويحصل ذاك على جثامين لمقاتليه في المقابل. هذا وارد، ومقبول، ومهضوم. أما أن يخرج مقاتلون للتنظيم أحياء من أماكنهم، وبرعاية وحماية على هذا المستوى، فهذا هو الجديد حقاً، وهذا هو ما سوف تتناقله الأجيال من بعد، جيلاً من وراء جيل!

ومع أن القصة إلى هنا، قصة صادمة، إلا أننا لا نزال بكل أسف، عند منتصفها!

بقيتها تقول إن الولايات المتحدة التي تتولى مطاردة التنظيم، عبر تحالف دولي، من أجل القضاء عليه، قد عرفت طبعاً بنبأ قافلة الحافلات، وبموعد انطلاقها، وبمحطة الوصول بالنسبة لها، فراحت تبعدها عن مسارها المرسوم، وراحت توجه إليها ضربات تهويشية متفرقة، ليس من أجل القضاء عليها، لا سمح الله، ولا حتى من أجل إصابتها، وإنما، ويا للعجب، من أجل أن تسلك القافلة سبيلاً آخر!

عند هذه المرحلة من القصة، يبتهل الواحد منا إلى الله تعالى، كي يُثبّت عقله في رأسه؛ لأن كل محاولة لفهم أي مرحلة من مراحلها مصيرها الفشل الأكيد!

إن الأطراف المشتركة في الصفقة، أو المراقبة لها، في جميع مراحلها، تبدو وهي تتعامل مع الدواعش في كل مرحلة، كأنها عسكري مرور ينظم حركة القافلة، ويوجهها، ويضبط إيقاعها، ولكنه أبداً لا يوقفها، فضلاً بالطبع عن أن يصيب مقاتليها!

وسوف يأتي يوم ينكشف فيه الغطاء عن هذا كله، لنعرف وقتها ما هي بالضبط قصة «داعش»، ومَنْ وراءه في المنطقة، وخارجها، ثم مَنْ يوظفه، ويستخدمه، ويركبه، وهو يقول لنا في الوقت نفسه، إنه يقاومه، ويلاحقه، ويطارده! سوف يأتي هذا اليوم الذي تسقط فيه كل الأقنعة، ولكن السؤال هو: متى؟!

وإلى أن يأتي هذا اليوم، يخشى كثيرون بيننا أن تكون الإدارة الأميركية، أيام أوباما ثم أيام ترمب بالسواء، قد قررت الأخذ بنصيحة العجوز هنري كيسنجر، الذي نصح في واحد من تجلياته العجيبة، بعدم القضاء على تنظيم داعش؛ لأن القضاء عليه – في تقديره – يمكن أن يُفسح المجال أمام إيران لتتمدد أكثر في منطقتنا، وكأن المكتوب على أبنائها من العرب أن يعيشوا أسرى التطرف بنوعيه: تطرف السياسة الإيرانية، وتطرف «داعش» في مقابلها!

إن عبارة عجوز السياسة الأميركية لا يجوز الإنصات لها، فضلاً عن الأخذ بها؛ لأن التطرف ممقوت بكل أصنافه، وأياً كان مصدره، أو ممارسوه، ولأن التطرف لا يبرر تطرفاً آخر أبداً، ولأن القبول بتطرف، درءاً لتطرف آخر، هو عذر أقبح من ذنب!