الواقع أسوأ بكثير من الصورة التي يجرى تداولها في وسائل الإعلام بشأن استكمال تمديد المجلس النيابي لنفسه إلى ما يعادل ولاية كاملة لمدة أربع سنوات. المشهد الذي بدا فيه النواب منقسمين، ولو بأرجحية كاسحة لمصلحة دعاة التمديد، إنما كان يعكس صراعاً سياسياً «تقليدياً» على الحصص والمواقع والنفوذ ارتباطاً، خصوصاً، باستحقاق انتخاب رئيس للجمهورية.
معروف أن هدف إيصال رئيس «التيار الوطني الحر» العماد ميشال عون إلى سدة الرئاسة الأولى هو الشغل الشاغل والوحيد للتيار «البرتقالي» ولرئيسه، راهناً، نظراً إلى احتمال عدم تكرار الفرصة، مرة جديدة، بعد ضياعها مرات عديدة في المحطات السابقة. يؤكد هذا الاستنتاج، براهين أخرى، أن كتلة العماد عون النيابية («الإصلاح والتغيير») كانت قد تقدمت باقتراح لتعديل الدستور بما يتيح انتخاب الرئيس من الشعب مباشرة، وذلك لاعتقاد أصحاب هذا الاقتراح أن فرص العماد عون تصبح مضمونة نظراً لاختلاف التوازنات لمصلحته في التصويت الشعبي عن التصويت البرلماني. وكذلك فإنه بغرض كسر الاطصفافات الثابتة القائمة والتي لا تتيح لأحد، خارج مبدأ التوافق (الداخلي والخارجي)، العبور إلى قصر بعبدا، فقد حاول العماد ميشال عون مباشرة حوار مع رئيس تيار «المستقبل» آملاً إيجاد صيغة تعاون توفر له الأكثرية الضرورية للفوز بالمنصب الأول في البلاد. طبعاً، لم تسر الرياح كما تشتهي سفن التيار العوني بسبب شروط سياسية عرقوبية وضعها التيار الأزرق (المستقبل) وحلفاؤه، وكان من شأن الأخذ بها، من قبل العماد عون، توقع خسارة موازية لدى الفريق المنافس (8 آذار) إن لم تكن أكبر بأبعادها المعنوية والانتخابية والسياسية معاً.
ليس غريباً أن يجرى
تقديم اقتراح بأن تنتخب كل طائفة نوابها
لا يعني هذا الكلام أبداً تأييد رأي أولئك الذين يحملون العماد ميشال عون مسؤولية التمديد بسبب إصراره على الترشيح. فالتعطيل، برأي هؤلاء، هو الذي جرَّ إلى عدم إجراء الانتخابات النيابية بسبب عدم إجراء الانتخابات الرئاسية. هذه كذبة. وهي من «عدة الشغل» في الصراع والتنافس القائمين، وخصوصاً على أصوات الناخبين المسيحيين بين «التيار الوطني الحر» و«القوات اللبنانية» بزعامة الدكتور سمير جعجع (ومن خلفهما، تباعاً، حلفاؤها في تحالفي 8 و14 آذار). التمديد هو في الحقيقة والواقع محطة جديدة من محطات تدهور وعجز النظام السياسي اللبناني عن تشكيل إطار قادر على احتواء التناقضات والتعارضات القائمة بين القوى السياسية اللبنانية بشكل خاص، وبين اللبنانيين بشكل عام، لمصلحة المشتركات والتوافقات، فيما تجرى إحالة ما تبقى من المسائل الخلافية إلى معادلة الأكثرية والأقلية في صيغة ديمقراطية يرتضيها ويخضع لها الجميع. والعجز هذا ناجم عن الخلل القديم الجديد في بنية هذا النظام وفي آليات عمل سلطاته ومؤسساته منذ عهد السيطرة العثمانية إلى مرحلة الانتداب الفرنسي. لقد تشكل هذا النظام في صيغة كونفدرالية طوائف. وهذه لم تلبث، مع الأيام، أن ازدادت تفاقماً بشكل مضطرد، بحيث نشأت وتبلورت دويلات ضمن الدولة الواحدة وعلى حسابها. ولقد اقترن ذلك، بشكل مضطرد ومتفاقم أيضاً، مع وصاية وارتباطات خارجية، تعدَّت التحالف السياسي إلى الارتباط العضوي المعزَّز بعلائق مالية وروحية وعقائدية… وصولاً إلى الانخراط في الاستقطاب المذهبي المستعر، راهناً، والذي تجرى عملية تغذيته، من دون حدود وضوابط، من قبل الصغار والكبار، الإقليميين والدوليين، على حدٍ سواء!
في كنف هذا المسار تشكلت قوى وسلطات ذات إمكانيات استثنائية. وهي قوى وسلطات لا تستمد دورها ونفوذها من توحيد اللبنانيين بل من تقسيمهم، وليس فقط من داخل لبنان بل من الخارج أيضاً، وليس على أساس الولاء للوطن والمساواة بين المواطنين، بل على أساس الانضواء والانخراط في المحاور والصراعات الإقليمية والدولية على حساب المشترك اللبناني، وعلى حساب الدولة اللبنانية ومؤسساتها وشروط استقلالها وسيادتها وقدرتها على مواجهة التحديات والمتغيرات والاستحقاقات.
لهذا السبب ولأسباب أخرى سواه، باتت «الميثاقية» كما عبَّر الرئيس نبيه بري (وهو رئيس السلطة التشريعية!) «فوق الدستور» كما أعلن مؤخراً. بل إن «الميثاقية» تلك هي ما يجري، حثيثاً وتباعاً، إحلاله محل الدستور في كل الشؤون تقريباً: القانونية والمالية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية… وصولاً إلى النقابات المهنية والإعلامية وشركة «سوكلين» ورابطة الأساتذة المتفرغين في الجامعة اللبنانية التي أصبحت أحد أذرع «الجامعة اللبنانية الطائفية الأم» بدل أن تكون نقيضاً وبديلاً لها!
ليس غريباً، في مجرى ذلك، أن يجرى تقديم اقتراح بأن تنتخب كل طائفة نوابها. «الغريب» فعلاً هو أن يخضع «ممثلو» طائفة لرأي رعايا طائفة أخرى أو مذهب آخر! ولذلك جرى، تباعاً وبشكل مثابر، تفريغ العملية الانتخابية من كل مضمونها المتصل بحق الناخب في الاختيار في نطاق عملية انتخابية تؤمن صحة التمثيل وفق قانون انتخابي عصري وعادل وبالاستناد إلى إجراءات سليمة ونزيهة تحول، خصوصاً، دون استخدام السلطة والمال والعصبيات والولاءات الخارجية وأدوات حاسمة أخرى في تعطيل الاختيار وفي تقرير النتائج. لقد جرى، عن حق، إطلاق صفة «المعلبة» على الانتخابات النيابية، خصوصاً ما بعد انتهاء الحرب الأهلية، لأنّ 95% من نتائجها، أو أكثر، باتت معروفة ومقررة مسبقاً. أما المتبقي فهو ما كان مادة صراع وتسويات حتى لو اقتضى الأمر الاستعانة بأطراف خارجية أو اللجوء إلى التمديد للنواب بانتظار حصول التسويات التي تصبح بعيدة المنال أكثر فأكثر هذه الأيام.
نعم إن تعاظم الانقسام في الداخل وعلى المستوى الإقليمي هو ما جعل التسويات أصعب. ومع ذلك لم يندر أن تقاطعت مصلحة «الدويلات» على تفاهمات تتعلق باحتكارها للسياسة وبسعيها لاستمرار هذا الاحتكار. لذلك فالتمديد، كما لاحظ اللواء جميل السيد هو للنظام السياسي وليس فقط لأكثرية أطرافه: أي أن التمديد هو لمصلحة كل الشركاء في لعبة المحاصصة من القوى الداخلية والخارجية على حدٍ سواء!
بكلام آخر، التمديد للمجلس النيابي هو تمديد لخلل جوهري يعصف بـ«الصيغة» اللبنانية بما يطاول، ليس فقط الحق الديمقراطي البديهي للناخب، بل الشرط الضروري لبناء وطن حصين وموحد في وجه التحديات الخطيرة والتهديدات الداهمة المتسارعة على أجنحة الفتنة الجامحة والحاملة أساليب «مبتكرة» تماماً من القتل والمجازر والدمار والتطرف والإرهاب. رغم كل ما عاناه اللبنانيون في الماضي من ويلات وحروب وخسائر، وما يدفعونه اليوم من أثمان وفواتير من دمهم واستقرارهم وأرزاقهم… رغم كل ذلك، فلقد نجحت الفئات المتحاصصة البلد والمتنافسة على الاستئثار بمصائره وسياسته ومقدراته وموارده، في إغراق المواطنين في أتون العصبيات الطائفية والمذهبية والاستقطابات الخارجية.
ولقد استفاد هؤلاء من تراجع وعجز قوى التغيير التي تدهورت ممارسات بعضها إلى ما هو شبيه بممارسات أطراف السلطة أو، حتى، أسوأ!
ضعف حركة الاحتجاج ضد التمديد عزّز لدى كثيرين الشعور بالإحباط. هذا شكل جديد من اشكال العجز التي ينبغي تفاديها بالثبات والكفاح والمبادرة.