تستخدم البلدان التدابير التقشفية لتفادي أزمة ديون سيادية وعندها يصبح الدائنون خائفون من حالة إفلاس البلد. هذا يحدث عادةً عندما تصبح الديون مقارنة بالناتج المحلي أكثر من ٩٠ بالمائة وهذا يعني أن الدين يساوي تقريباً ما ينتجه البلد سنوياً فيطالب الدائنون بأسعار فوائد مرتفعة لتعويض المخاطر المالية- وإرتفاع الأسعار هذه يعني أنها تكلف البلاد أكثر.
عندما يدرك البلد أنه لا يستطيع تحمل تكلفة الدين يلجأ إلى المؤسسات الدولية سيما صندوق النقد الدولي للحصول على قروض جديدة مقابل كفالات يشترطها المقرضون وأهمها تدابير تقشفية. والتقشف ينطوي على خفض الانفاق الحكومي خلال فترة ضعف النمو الإقتصادي. هذا من الناحية المنطقية للأمور. لكن بعض المنظرين الإقتصاديين يرون في التقشف خطوة ضرورية لخفض العجز في الموازنة مع تحسين الأداء الإقتصادي غير أن وجهة النظر الكانزية ترى في التقشف خطوة محبطة إذ إن خفض الانفاق يؤدي حتماً إلى إنخفاض الطلب الأمر الذي يؤدي إلى إنخفاض النمو الإقتصادي وإنخفاض الايرادات الضريبية، وبالتالي يزيد من البطالة.
ذرائع التقشف عديدة ولم تبرهن في جميع الأحوال أنها ناجعة في تحقيق الهدف المرجو منها. وصندوق النقد الدولي ومعه المؤسسات الدولية الاخرى ترى فيه عملية مفيدة. ومن الأمثلة الناجحة لبلدان تابعوا التقشف وحققوا بعده نموا إقتصاديا جيدا، نذكر على سبيل المثال كندا في الفترة ١٩٩٦- ١٩٩٣ وما حدث في لاتفيا وإستونيا حيث شهدت لاتفيا نمواً مطرداً فاق مستوى الـ٥ بالمائة في العام ٢٠١٢ بعد أن اتّبعت سياسة تقشفية واستطاعت التغلب على مشاكلها.
اما الحجج التي تساق ضد التقشف فتبيّن انه خلال الركود الذي حصل نتيجة الأزمه العالمية ما بين العامين ٢٠٠٨-٢٠١٥ ارتفع العجز في الميزانية البريطانية وزادت المديونية الامر الذي ادى الى انخفاض ايرادات السندات. لذلك قد يكون الكساد ليس الوقت المناسب للتقشف وينبغي السعي الى التقشف عندما يكون هنالك نمو اقتصادي قوي.
في دراسة لصندوق النقد الدولي مؤخراً اظهرت ان التقشف الذي حصل في العديد من الدول الأوروبية جاء بنتائج غير كافية. لذلك قد يكون السؤال إذا ما كان التقشف سيئا ام جيدا؟ والجواب هو اكثر غموضا سيما وان الدول المديونة عليها ان تخفّف نفقاتها، وفي المقابل، اذا ما طبّق التقشف بشكل قوي تبدو امال الانتعاش الإقتصادي قاتمة لا محال ويجب على اساسه تطبيق سياسات اخرى بحكمة. كذلك كشف تقرير صندوق النقد الدولي ان التقشف عند الحكومات الأوروبية كان له تأثير سلبي على اقتصادات هذه البلدان، حيث ارتفعت نسبة البطالة. لذلك فان الجواب معقد ويعتمد في المطلق على كيفية تطبيق نظام التقشف. وهناك نهج افضل يتمثل في تطبيق سياسة التقشف في طريقة مرنة من اجل تخفيض الديون تدريجياً، وفي الوقت نفسه من اجل استعادة النمو الإقتصادي وبالتالي القدرة على سداد الديون .ويظهر النهج المتوازن بمحاولة الخروج من الديون مع تعزيز النمو والعدالة الاجتماعية. وكان الاتفاق الذي ابرم عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية في اوروبا لالغاء الديون الألمانية، قد سمح لها بالنجاح والنمو(London Conference of 1953) . وكانت لحظة حاسمة بالنسبة لأوروبا لكن للأسف لم تتكرر في بروكسل.
يبقى توقيت تدابير التقشف لاسيما وان الوقت قد يكون غير مناسب إذا كان البلد يجاهد للخروج من الركود وخفض الانفاق الحكومي يساعد في تسريح العمال ويقلل من النمو ويزيد البطالة. ورفع الضرائب على الشركات يؤدي الى مزيد من التسريح ورفع ضرائب الدخل ستأخذ المال من جيوب المستهلكين.
لذلك قد يكون من الانسب اعتماد مزيج من السياسات تساعد في خفض الانفاق الحكومي وتحسين الايرادات الضريبية دون زيادة في الضرائب وتقسيم التزامات الانفاق الى مستويات يمكن تحملها. والوضع اللبناني شبيه الى حد كبير بعيد كما سبق وذكرنا بالوضع اليوناني والتهرب الضريبي يعد من اهم الاسباب التي ادت الى حالة الركود اليونانية، وهي تنطبق حرفياً على لبنان. كذلك منتفعات المتقاعدين وسن التقاعد وغيرها من الامور التي تزيد العبء على الخزينة. كذلك الغاء الدعم بحيث نوفر على الخزينة أموالاً كثيرة. لذلك قد يكون توقيت تخفيض العجز عاملا رئيسيا سيما ان البلد في حالة ركود ولم يتجاوز النمو ١الى٢ بالمائة في احسن الاحوال.
وإذا ما كانت الدولة جادة ومدركة للوضعية التي نحن بها لا بد من العمل على تحديد مزاريب التهرب الضريبي ولجم الفساد والمستثمرين في وزارات الدولة وتفعيل التفتيش المركزي وتقييم التزامات الانفاق الحكومي، وهذا امر جدي للغاية وضبط معايير إنفاق الوزارات بشكل مدروس بحيث نستطيع تخفيض عجز الموازنة للسنوات القادمة. وللذين يراهنون على مؤتمر سيدر وحده نؤكد انه غير كافٍ ما لم يتزاوج مع عمليه إنقاذيه تأخذها الدولة على محمل الجد الامر الذي يعيد الثقة للمستثمر والمواطن والمدخر في اقتصاده ومصارفه وحكامه.
وهذا يتطلب جملة الامور وعلى سبيل المثال لا الحصر:
- خطط وبرامج ذات مصداقيه في المدى الطويل.
- إصلاحات هيكليه وزيادة الفرص.
- اعاده هيكلة الضمان الاجتماعي في شكل أرخص واقل تبذيراً.
- اعاده دراسة اموال التقاعد للعسكريين والمدنيين على السواء
هذا إذا ما سلمنا جدلا ان الحكومة مدركة لوضعيه البلد الإقتصادية وان الامور لا يمكنها ان تنتظر اموال سيدر او التنقيب عن النفط والغاز، وان الشعب مدرك لواجباته وعنده من الوعي الكافي لخطورة المرحلة، وانه لابد من التكيّف الهيكلي مع الوضع الراهن.