IMLebanon

مصارع الكِرام

صحيحٌ أنّ جريمة قتل الشيخ نمر النمر لم تكن، في جانبٍ أساسيّ منها ومن وجهة نظر من ارتكبها، فعلاً طائفياً. النّمر لم يُقتل لأنّه شيخٌ أو لأنّه شيعيّ؛ ومع أنّ لائحة الاتّهام الطويلة الّتي قدّمتها السلطات تحوي تهماً مختلفة، بعضها ذو طابع طائفي، الّا أنّ «الجّرم» الرئيسي الذي تصدّر نصّ الحكم، والذي من أجله قتل آل سعود الشيخ النّمر، كان «إعلان عدم السّمع والطاعة لوليّ أمر المسلمين في المملكة، وعدم مبايعته له».

هذا الحكم، اذاً، سيحلّ بأيّ فردٍ لا يعلن البيعة والرضوخ للعائلة التي تحكم أرض الحرمين؛ والشيخ النّمر، على عكس ناشطي «القاعدة» والأحزاب المسلّحة، لم ينظّم فعلاً عنفياً ولا نظّر للقتال ولا دعم تنظيماً، بل وقع الإعدام عليه لعاملٍ يتعلّق حصراً بمعتقده الداخلي، وولائه القلبي، وما يقول ويكتب. هكذا عقوبات تُبنى على «رفض البيعة للأمير» لم تحصل (اذا ما استثنينا مناطق حكم «داعش» وأشباهه) الّا في الأنظمة الملكيّة القديمة، حين كان مجرّد الحديث عن موت الملك، أو التشكيك في شرعيته وحكمته، أو حتّى «تخيّل اذيته الجسدية والمعنوية» (بحسب قانون الخيانة الانكليزي في القرن السادس عشر)، سبباً للاتّهام بالخيانة العظمى والإعدام. وقد قتل الملك الانكليزي هنري الثامن الفيلسوف الشهير (وسفيره ومعلّمه ومستشاره) توماس مور، بحجّةٍ شبيهة، حين رفض مور الإعتراف بولاية الملك على كنيسته، وبالتالي على معتقده الإيماني (وقد تمّ تطويب مور، الذي فضّل خدمة ربّه على ملكه، قدّيساً في القرون التالية).

لم يُقتل الشيخ النّمر لأنّه شيخٌ أو لأنّه شيعي، فالحكم السّعودي ليس مجرّد كيانٍ طائفي، بل قد يكون أقلّ طائفية بكثير من أنصاره وأتباعه ومستنسخاته في المشرق. الحكم السّعودي لا يمانع بتقريب العديد من الأفراد الشيعة اليه، وجعلهم مهندسين وتكنوقراط، وتجاراً كباراً وشيوخاً، طالما أنّهم يتحدّثون باللغة «المسموحة» وينحنون لأمر البيعة (بل وقد يستخدمهم النّظام، هم و»الليبراليين»، في مواجهة المتدينين الوهابيين حين تدعو الحاجة، والعكس بالعكس. وفي قطر، كما في الكويت والإمارات، عائلات شيعية حازت ثراءً ونفوذاً، وصارت من أخلص الداعمين للأنظمة القائمة ولعروشها). المنطق الحقيقي لآل سعود نستشفّه من مقالٍ نشرته صحيفة سعودية ــــ «الشرق الأوسط» ــــ قبل شهرٍ تقريباً، في محاولةٍ لاستباق الجريمة وتبريرها، والمقارنة بين الشيخ النمر ومنظّر القاعدة في السّعودية، فارس آل شويل، الذي تمّ اعدامه في اليوم ذاته. تقول الصحيفة ببساطة إنّ مبرّر الإعدام (في حقّ السني والشيعي) هو انّهما «خلعا البيعة عن أعناقهما لحكّام السّعودية».

لو كان النّظام السّعوديّ كياناً دينيّاً طائفيّاً شرساً، كما يصوّره البعض، لما كان يقيم العلاقات الوثيقة مع اسرائيل، ولا كان ليستسهل أن يصير محميّة اميركيّة؛ ولا كان أمراؤه وقادته يعيشون تلك الحياة الباذخة الفاسقة، وتمتلىء الصّحف بالأخبار عن أميرات وأمراء سعوديين يتسوّقون في عواصم اوروبا بلا وعي، ويراكمون فواتير بملايين الدولارات للفنادق، ويواجهون المشاكل مع القانون والشرطة. في تحقيق مطوّل لمجلّة «فانيتي فاير» عن الأميرة السعودية مها السديري، احدى زوجات الأمير نايف (وزير الداخلية الأسبق الذي كان أوّل من لاحق واضطهد وعذّب الشيخ النمر)، تروي المجلّة أن الأميرة ــــ خلال اقامتها في باريس ــــ عادت من رحلة تسوّق قصيرة في جنيف بحمولة أربع شاحناتٍ من المشتريات (تقول احدى معارف العائلة إنّ تصرّفات الأميرة، بما في ذلك السرقة والفضيحة والهدر الجنوني، مفهومة ومبرّرة اذا ما أخذنا في الإعتبار شخصية زوجها، مضيفة عن نايف: «أيّ شخصٍ سيصاب بالجنون بسبب الزواج منه»).

على الرّغم من أنّ جريمة آل سعود، وسياسة آل سعود، ليست طائفية المنبع ولا علاقة لها بالمذاهب والصحابة، الّا أنّ الإعدام أثار ردود فعلٍ طائفية أظهرت أن الكثيرين في بلادنا أضحوا عاجزين عن النّظر الى أي قضيّة خارج المعادلة الطائفية، ويقولبون (كما يريد آل سعود تماماً) أفعال الخليج، وجرائمه في حقّ أبنائه، وفي حقّنا، وحتّى التطبيع مع اسرائيل والتحالف معها، كـ «ردّ فعل» في حربٍ طائفية. الشّيخ النّمر كان مجتهداً عربياً مستقلّاً، ولم يكن يتبع ولاية الفقيه، ولا مواقفه وسيرته تتقاطع مع السياسة الايرانية؛ الّا أنّ أتباع الخليج من العرب برّروا قتله بأنّه ضربة لايران، في إثبات جديدٍ بأنهم مجرّد عميان حقدٍ، لا يميّزون، وبأنّ النّجاح الأكبر للسياسة الخليجية تمثّل في تحويل قسمٍ معتبر من عرب المشرق جنوداً وخدماً طوعيّين لها، ولو على حساب مصالحهم ومستقبلهم. الإسلاميّون الذين يتصدّرون هذا الرّكب، بالمناسبة، كانوا أول من يجب أن يتصدّى للطائفية وأن يفهموا خطرها عليهم هم تحديداً، وهو خطرٌ ــــ بالنسبة لمن يبغي حالة اسلامية ــــ يتجاوز خسائر التكتيك والتحالفات والمكاسب الآنية؛ وهم سيفهمون في السنوات المقبلة، على اية حال، معنى وثمن ما فعلوه.

هذا ايضاً دليلٌ على أنّ الحرب الطائفية المستعرة في المنطقة، طالما أنّ سلالات الخليج قد قرّرت النفخ في أوارها كسياسة واعية (وهذا ما تشرحه بوضوح وثائق «ويكيليكس» مثلاً)، لن تهدأ ما بقيت هذه العروش، وما احتفظت بقدرتها على حصار المواطن العربي والهيمنة على إعلامه وثقافته، وتشكيل وعيه واغراقه يومياً، عبر مئة وسيلة مختلفة، برسالة الحقد نفسها. قد نكون، كعربٍ، قادرين على انتاج ثقافة أرقى من الطائفية، تصلح لبناء أوطان، ومحصّنة ضدّ القتل، وقد لا نكون؛ ولكنّنا، في ظلّ وجود آل سعود وأمثالهم، لن نعرف ابداً.

أمّا الشيخ النّمر، فإنك لا تحتاج الى التوافق فكرياً أو سياسياً معه حتّى تفهم انّه ينتمي الى صنفٍ خاصٍّ من الشهداء، له مقابلٌ في كلّ عصرٍ وحضارة ودين، وكلّما وقف حرٌّ في وجه طاغوت. يُقال إن كلّ أفعال الإنسان وأقواله في الحياة ما هي الّا تحضيراً للحظة موته؛ وهل هناك ما هو أنبل وأكرم وأليق بالتاريخ من روايةٍ عن رجلٍ قتله طاغية سفّاح لأنّه «قد أقرّ» ــــ كما يقول نصّ الحكم حرفياً ــــ «بأن لا بيعة في عنقه لأحد»؟