Site icon IMLebanon

توقيت خاطئ

الوجه الأبرز للشراكة المتواصلة منذ الاستقلال بين جميع الطوائف الدينية والنظام السياسيّ هو المؤسسات التربوية. لا يكتفي النظام السياسي بفعل كل ما يلزم للحؤول دون مزاحمة التعليم الرسمي للتعليم الخاص، ولا يكتفي بكل الإعفاءات الضريبية التي يقدمها للمؤسسات الدينية، بل يذهب أبعد من ذلك بكثير: بدل أن تدعم الدولة التعليم الرسمي بكل قدراتها لأن التعليم الجيّد (وليس أيّ تعليم) هو حق للجميع، تدفع الحكومات المتعاقبة أكثر من 240 مليار ليرة سنوياً لمؤسسات التعليم الخاص، كبدلات منح تعليمية لأعضاء الأسلاك الأمنية والعسكريين والأساتذة والموظفين، إضافة إلى دعم المدارس الخاصة بمبلغ كبير آخر من صناديق تعاضد القضاة وأساتذة التعليم الجامعي وموظفي مجلس النواب والنواب.

بدل إنفاق الأموال على تحسين التعليم الرسمي، تهمله الحكومات منذ الاستقلال وتدفع مئات المليارات سنوياً للمدارس الخاصة. أنفقت الدولة مئات ملايين الدولارات في السنوات العشرين الأخيرة لتأهيل المدارس الرسمية وتجهيزها واستحداث مبان جديدة، لكنها بدل أن تدفع المزيد وتضع خطة طوارئ لتأمين جودة التعليم المطلوبة في هذه المدارس، تقوم بكل بساطة بدفع الأموال لموظفيها من أجل تعليم أبنائهم في مدارس أخرى. من حق الموظفين تأمين تعليم جيد لأبنائهم طبعاً، وقد فعلت الدولة ما يلزم لتحقيق ذلك في ظل تدني أجور الموظفين.

لكن لا يتعلق الأمر بهذه المجموعة أو تلك؛ من حق جميع المواطنين أن يحصلوا على تعليم جيد لأبنائهم، وبدل إنفاق الدولة 240 مليار سنوياً لتعزيز خزينة المؤسسات التعليمية الخاصة كان بوسعها إنفاق المبلغ على تحسين جودة التعليم الرسمي ليستفيد منه كل المواطنين، بلا استثناء. فمن حق الموظفين والعسكريين والقضاة الحصول على تعليم جيد لأبنائهم، لكن لا يمكن الدولة الاستمرار في تمييز مواطن عن آخر؛ وما هو حق لموظفي القطاع العام والمعلمين والأساتذة والقضاة والأمنيين والعسكريين، يحق أيضاً لأبناء المزارعين والحرفيين وصغار الصناعيين وسائقي الأجرة…

اللافت أنه رغم رشوة النظام السياسي لأصحاب المدارس الخاصة بآلاف المليارات، لا يشبع أصحاب هذه المؤسسات أو يخجلون ولا يقولون إن النظام السياسي يمر بمأزق شعبي يستوجب منا الرفق به باعتباره «منّا ونحن منه». لا أبداً. يطل منسّق اتحاد المؤسسات التربوية الأب بطرس عازار، في مقابة تلفزيونية، ليقول ثلاث عبارات في أقل من عشرين ثانية، تختصر ما يدور في «عقل» هذه المؤسسات. فهو قال إن الزيادة على الأقساط المدرسية يمكن أن تتجاوز 28 بالمئة (رغم أن زيادة الرواتب وفق السلسلة لا تصل إلى 28 بالمئة). وهو قال إنه يمثل مؤسسات لا تتوخى الربح، لكن القانون سمح لها باقتطاع 35 بالمئة من الميزانية لمصلحة تطوير المدارس وتأمين المستلزمات التشغيلية. وعليه ستدفع الدولة، وفق عازار، للمعلمين في القطاع العام، فيما سيدفع الأهل في القطاع الخاص، كأنه لا يعلم أن الأهل في المدارس الخاصة أربعة أنواع:

مجموعة صغيرة جداً لديها ما يكفي من المال للتعامل بلا مبالاة مع زيادة الأقساط أو نقصانها.

مجموعة أكبر تكافح وتضطر أحياناً كثيرة إلى بيع أرض أو رهنها من أجل إكمال تعليم أبنائها، ويصعب تخيّلها تتعايش مع زيادة جديدة في الأقساط.

مجموعة تستفيد من المساعدة التي تقدمها الشركات المتوسطة والكبيرة لموظفيها من أجل تعليم أبنائها، لكن غالبية هذه الشركات تعاني منذ أكثر من عامين ضائقة مالية، ولا يمكن تخيّلها تغامر بزيادة مخصصات التعليم، من دون زيادة فواتيرها على المستهلكين أيضاً.

أما المجموعة الرابعة (ربما تكون الأكبر)، فتحصل من الدولة على جزء مما تدفعه كأقساط للمدراس.

ولا يمكن والحال هكذا في عهد الإصلاح والتغيير سوى تخيّل رئيس الجمهورية العماد ميشال عون يشعر بهذا الوجع الشعبيّ المتفاقم ويرفض ابتزاز المدارس المتواصل، فيبلغ وزير الدولة لشؤون مكافحة الفساد، بالتنسيق مع الوزارات المعنية، اتخاذ الإجراءات الآيلة إلى وقف الدعم الحكومي للتعليم الخاص وضخ الأموال بسرعة في خطة إنقاذية عاجلة لتحسين التعليم الرسمي، ليتضح ماذا سيبقى لعازار عندها وما يمكنه فعله. المافيا التربوية نمت وكبرت ولا تزال تتدلل في حضن الدولة. ولا بدّ من خطوة إصلاحية مفصلية كبيرة في هذا الملف.

ولا بد من التذكير بأن المدارس التابعة للمؤسسات الدينية هي مؤسسات لا تبغي الربح وعليها تقسيم مداخيلها بين الرواتب والكلفة التشغيليلة وخطط التطوير. ويستلزم ذلك استحداث لجان للتدقيق في حساباتها، ومقارنة الأقساط الخيالية بالتكاليف الحقيقية لوضع حدّ للمهزلة التي يعاني منها اللبنانيون (مدارس البورجوازية اللبنانية تبدأ أقساطها بستة آلاف دولار أميركي، ويمكن أن تصل إلى 12 ألف دولار، فيما أقساط المدارس التي تصنف عادية جداً تتراوح بين أربعة آلاف دولار وثمانية آلاف دولار سنوياً).

ولا شك أخيراً في أن العهد مطالب، وهو يسعى لتحقيق إنجاز معيشي كبير. وهذا ملف أساسي وموجع بالنسبة إلى جميع الأسر اللبنانية. والأكيد هنا أن المؤسسات التربوية الخاصة اخطأت في توقيت الإعلان عن نيتها زيادة الأقساط هذه المرة، فالنظام السياسي الذي استغرق ثلاثة أشهر لزيادة الضريبة على القيمة المضافة من 10 إلى 11 بالمئة، وفعل كل ما يلزم ليقول للرأي العام إنه حقق إنجاز إقرار السلسلة، لا يحتمل أيّ زيادة في الأقساط تمس عدداً كبيراً من الأسر اللبنانية. الواحد بالمئة TVA يمكن بلعها، لكن مطالبة كل عائلة بدفع بين مليون وأربعة ملايين ليرة عن كل ابن وابنة في المدرسة، لا يمكن هضمها أبداً. وما الأصوات الاعتراضية التي خرجت تهاجم المؤسسات الدينية التربوية «التي لا تشبع»، سوى نموذج صغير عمّا ينتظر هذه المؤسسات في حال ذهبت أبعد في هذا الملف المعيشي الموجع، في هذا التوقيت الخاطئ.