Site icon IMLebanon

اليرزة كلتا القبلتين

  

 

تحتلّ اليرزة جزءاً مهماً من ذاكرة من عايشوا الحرب الأهلية اللبنانية والسِّلم الطائفي (نسبة إلى الطوائف) الذي تلاها في تسعينيات القرن الماضي. فبلدة اليرزة التي تقع على أول تلة شرقاً من بيروت على طريق الشام هي مقرّ وزارة الدفاع وقيادة الجيش، التي تشكّل مراكز سيادية في أي وطن، وإن كان منتقص السيادة. وهكذا كانت حال لبنان في أيام الحرب حيث كانت تتناتشه ميليشيات وجنود احتلال وقوات تردع بين أهل الوطن.

 

لكن في يوم خريفي في تشرين الأول من عام 1990، انتهت الحرب الأهلية بدخول الجيش العربي السوري إلى اليرزة وبعبدا التي تتشاركها التلة ذاتها واندحار قيادة الجيش اللبناني إلى مبنى السفارة الفرنسية التي كانت تطلق مبادراتها الإنقاذية من الحازمية في حينها. وافتتح ذلك الحقبة الطائفية (نسبة إلى مدينة الطائف العربية السعودية) بعد نفي آخر المعترضين على اتفاق إنهاء الحرب وتقاسم الغنائم بين زعمائها برعاية ما بات يُعرف بالـ«سين – سين». مذّاك باتت اليرزة محطّة إجبارية على طريق رئاسة الجمهورية اللبنانية إلى درجة أنه حتّى من قبَعَ في قبوها سجينَ جرائمِ حربٍ يحلم اليوم بتتويج مسيرته السياسية في قصر بعبدا.

مع الوقت، غاب ذكر اليرزة اليومي عن «فلاشات» الراديو الإخبارية التي كانت تنقل إحداثيات القصف المدفعي وعيارات القذائف إلى المستمعين المختبئين في الملاجئ (كان يُشاع في ملجئنا أن قذيفة الـ 155 مليمتراً أعلى صوتاً عند الانطلاق من نظيرتها الأكبر حجماً والتي كانت لفّة خصرها تبلغ 240 مليمتراً، لكن لم يتسنّ لي التأكد من هذه المعلومة). والراديو لمن لم يجايله هو متلقّي إرسال إلكتروني لا يقوم إلّا بوظيفة واحدة شبيهة بالوظيفة التي يقوم بها تطبيق «كلبهاوس» الرائج حالياً. فهو يلتقط موجات مبثوثة في الأثير ويترجمها أصواتاً يتحسّسها الإنسان سمعاً، وتختلف الأصوات من موجةٍ إلى أخرى وإن كان الضجيج واحداً.

حتى لما أعادت ثورة 14 آذار، السيادية بامتياز، أرزة اليرزة في الثمانينيات من منفاه وأخرجت نزيل سجنها في التسعينيات من زنزانته، لم تعُد تلة اليرزة لتشغل موقعها السيادي إذ استبدلتها روابٍ عامِليّة تستبطن من السيادة ما يكفي دولاً. لكن الصراع الإقليمي الكبير الذي تلا الغزو الأميركي للعراق والاحتلال العسكري المباشر في المشرق العربي، ومحاولة تغليب «سينٍ» على «سينٍ» لم يأتِ بالنتائج المرجوّة، فها هي اليرزة تعود من جديد لتحتل شاشات التلفزة اللبنانية هذا الأسبوع. عادت اليرزة محجّةً إخبارية على مدى يومين هذا الأسبوع، لكن ليس ذلك بِنُذْرِ حرب موشكة رغم ارتباط ذكريات جيلنا من اليرزة بزمن الحرب. فعلياً، لم يغِب الحجاج عن اليرزة وإن لم تتصدّر صورهم نشرات الأخبار، فسفراء التمويل والتدريب يزورون قيادة الجيش دورياً لالتقاط الصور مع متدرّبيهم، ولا تقتصر الزيارات على كبار رسل الدبلوماسية بل يشاركهم مندوبو الاستعمار في وكالات الإنسانية والإغاثة والسلام. فإن كان ركن السيادة المفترض قد انتُهك في خريف عام التسعين، فهو بات اليوم مشظّى ومستباحاً من الشرق والغرب.

إذاً عادت الأضواء لتتسلّط على اليرزة هذا الأسبوع، ورغم أن أبطال الأحداث يدورون في فلك الـ«سين – سين» ومتحاربَين شغلا أعلى مكتب وأدنى حجرة في اليرزة سابقاً، لا ينذر ذلك بالعودة إلى الحرب. فجغرافيا اليرزة اليوم تأوي منزل سفير السعودية وسفارة سوريا، وهاتان الوجهتان هما اللتان شهدتا الزحف البشري، بالمعنى الحرفي للأولى والمجازي للثانية. هفوة دبلوماسية جعلت من خيمة منزل سفيرٍ في اليرزة قبلة للمنبطحين المتعطشين لمكرماتٍ شحّت أخيراً نتيجة فشل المقاولين المفلسين في الإيفاء بوعودهم لأسيادهم الذين كانوا أسخياء يوماً من جهة، وتورّط فرعونهم بمشاريع وحروب مكلفة أطاحت بغروره وأمواله وقد تطيح به قريباً من جهة أخرى. هل ضمّن مستشارو ماكنزي ومجموعة بوسطن الاستشارية هذا الاحتمال في مخرجاتهم عندما صاغوا رؤية 2030 يا ترى؟ على كل، ننصح وفود المطبّلين والمغنّين والراقصين الذين أرادوا التكفير عن خطيئة الوزير المستقيل مرّتين أن يعتادوا مرارة القهوة التي احتسوها، فزمن الحلوى قد ولّى.

أما في اليوم الثاني من الحج إلى اليرزة، فكان المشهد مختلفاً. الحجاج هذه المرة كانوا أولاداً، وربما أحفاداً، من دخلوا اليرزة ردعاً منذ ثلاثة عقود، أتوا للإدلاء بأصواتهم المبكّرة في معركة ديموقراطية ننتظر نتائجها المتوقع صدورها ليل الأربعاء القادم على أحرّ من جمرٍ لما فيها من تداعيات على لبنان والمنطقة. لكن يبدو أن الذكر المتكرّر لليرزة أعاد إحياء عقدٍ دفينة عند مهزومٍ دائمِ الإفلاس خسر كل حرب خاضها ولم يتُب، لا بل خسر كل حرب لم يخضها أيضاً، إذ امتهن الرهان على خاسري حروب الإقليم. ولعلّه يراهن اليوم على فوز مرشح معين في الاستعراض الانتخابي، ما جعله يفلت مناصريه ضرباً على المتوجّهين إلى اليرزة حاملين صور المرشّح الأوفر حظاً لحثّهم على تغيير رأيهم. لكن الأرجح هو أن مرغ المقاومة في فلسطين لأنف رهانه التاريخي (ورهان كفيله) في رمال النقب هو ما أفقده صوابه. لكن كلّ ذلك ليس مهمّاً، لأنه إنْ أثبت الأسبوعان الفائتان شيئاً فهو أن خطف اليرزة للأخبار في لبنان لم يحرّف الأنظار عن الحدث الذي يغيّر المنطقة، وعن تسجيل المقاومة انتصاراً جللاً على العدو الأول لجيل الراديو وجيل التلفزيون وجيل الإنترنت. في المقابل، ظهرت تفاهة غير مسبوقة لمشهد مُفَلِّسي لبنان ومفْلِسيه في ظل تحولات كبرى ستشهدها منطقتنا في السنين القادمة. قد لا يجيد هؤلاء غير القرفصاء ولا بأس في ذلك، فهذا يسهّل مرور من يخطو فوقهم.