Site icon IMLebanon

ياسر عرفات وما تركه من فراغ..

 

قبل أربعة عشر عاماً، غاب ياسر عرفات. غاب رجل كان مالئ الدنيا وشاغل الناس طوال مرحلة طويلة من تاريخ الشرق الأوسط امتدت بين 1965 و2004، تحديداً. توفي «أبو عمّار» في باريس بسبب تقدّمه في السنّ، نسبياً، والأمراض الكثيرة التي كان يعاني منها والتي زادت في ظلّ الحصار الإسرائيلي الطويل الذي تعرّض له في «المقاطعة». كانت «المقاطعة» التي حاصرها ارييل شارون، في ظلّ لا مبالاة عربية وعالمية، المقرّ الرسمي لرئيس السلطة الوطنية الفلسطينية في رام الله. عمل رئيس الوزراء الإسرائيلي وقتذاك على منع ياسر عرفات من التنفس بشكل طبيعي وصولاً إلى جعله ينهار صحّياً. كلّ كلام آخر عن أسباب موت الزعيم التاريخي للشعب الفلسطيني كلام فارغ يندرج في سياق تصفية حسابات فلسطينية – فلسطينية.

 

بعد أربعة عشر عاماً يتبيّن كم أن الفراغ الذي تركه الرجل كان ضخماً، وكم أن هذا الفراغ يزداد مع مرور الأيّام. يزداد هذا الفراغ في غياب صعود قيادات شابة تأخذ المبادرة في الضفّة الغربية في ظل انسداد كلّ الحلول السياسية من جهة وإصرار إسرائيل على قضم الضفة شبراً شبراً من جهة أخرى.

 

في غياب ياسر عرفات، غاب القرار الفلسطيني. هناك ضياع فلسطيني بكل ما لكلمة ضياع من معنى، في وقت تراجعت أهمّية القضية الفلسطينية على الصعيدين العربي والعالمي، ولم يعد في الساحة سوى متاجرين بالقضية ومتاجرين بالشعب الفلسطيني من الذين يسمّون أنفسهم «محور الممانعة». هناك «يوم القدس» الذي تحييه إيران وأدواتها في يوم الجمعة الأخير من شهر رمضان. ماذا فعلت إيران بعد نقل الإدارة الأميركية سفارة الولايات المتحدة من تل أبيب إلى القدس، وقرار دونالد ترامب الاعتراف بالمدينة المقدّسة عاصمة لإسرائيل، متجاهلاً أبسط المبادئ التي تضمّنتها قرارات الشرعية الدولية؟

 

لم تفعل إيران شيئاً. عفواً، فعلت شيئاً، صارت تبحث في هذه المرحلة عن صفقة مع «الشيطان الأكبر» الأميركي و«الشيطان الأصغر» الإسرائيلي بعدما أدركت أن هناك ارتباطاً عضوياً بين رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وإدارة ترامب، وأن ليس في الإمكان الذهاب إلى حوار جدّي مع واشنطن من دون العبور بإسرائيل.. عن طريق سلطنة عُمان أو غيرها.

 

كان «أبو عمّار» يمثّل الكثير فلسطينياً. كان القائد الرمز الذي استطاع وضع فلسطين على الخريطة السياسية للشرق الأوسط وذلك منذ التقى جان سوفانيارغ وزير الخارجية الفرنسي في قصر الصنوبر (مقر إقامة السفير الفرنسي في بيروت) في العام 1974. لماذا لم يستطع أحد أن يكون وريثاً لياسر عرفات، وأن يبني على التركة التي خلفها يوم وفاته في الحادي عشر من تشرين الثاني (نوفمبر) 2004؟

 

يصعب الجواب عن هذا السؤال، لكنّ ما لا مفرّ من الاعتراف به أن «أبو عمّار» كان شخصيات عدّة في شخصية واحدة. استطاع تحقيق الكثير، ولكنه لم يستطع في نهاية المطاف أن يحقّق شيئاً باستثناء أنه بات يرقد في أرض فلسطين وليس في مكان آخر. في لبنان والأردن، ارتكب عرفات سلسلة من الأخطاء القاتلة تعود أساساً إلى أنّه كان أسير فكرة السيطرة على أرض في مكان ما لإقامة جمهوريته.. أو سلطة خاصة به. لعلّ أفضل من وصف هذا الجانب من شخصية الزعيم الفلسطيني كتاب للأخ نبيل عمرو عنوانه «ياسر عرفات وجنون الجغرافيا».

 

في نضاله الطويل من أجل العودة إلى فلسطين، لم يبالِ ياسر عرفات لا بالأردن ولا بلبنان، لا بالأردنيين ولا باللبنانيين. إذا كان الأردن استطاع ردّ خطر قيام دولة داخل الدولة على أرضه، فإن لبنان لا يزال إلى اليوم يعاني من هذا الخطر، خصوصاً بعدما أسّس وجود السلاح غير الشرعي الفلسطيني للسلاح الإيراني غير الشرعي.

 

في النهاية، لم يكن التوصل إلى اتفاق أوسلو في 1993 ممكناً لولا خروج ياسر عرفات من لبنان، ولولا موافقته شخصياً على هذا الاتفاق الذي أدخله إلى واشنطن. لا يتحمّل ياسر عرفات كلّ المسؤولية عمّا نشهده اليوم من تراجع فلسطيني. يتحمّل في المقابل مسؤولية العجز عن فهم العالم في مرحلة التغييرات الكبيرة التي بدأت تظهر عندما ارتكب تنظيم «القاعدة»، بإشراف مباشر من الإرهابي أسامة بن لادن، جريمتي نيويورك وواشنطن في الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) 2001.

 

سمّت «القاعدة» الجريمتين بـ«غزوتي واشنطن ونيويورك». كان «أبو عمّار» من ضحايا «الغزوتين» اللتين غيرتا نظرة العالم إلى القضية الفلسطينية، في وقت لم يعد المقيم في البيت الأبيض جورج بوش الابن، يرى العالم سوى بلونين. الأبيض والأسود.

 

مات ياسر عرفات قبل أن يرى الفصل الأخير من التراجع الفلسطيني الذي بدأ عملياً وهو لا يزال حيّاً. بدأ هذا الفصل بسقوط العراق في العام 2003. كان في العراق رجل آخر لم يستطع استيعاب ما يدور في العالم وأهمية موازين القوى فيه. كان صدّام حسين الضحية الأخرى لـ«غزوتي واشنطن ونيويورك». دفع ثمن ثقافته السياسية المحدودة التي جعلته في العام 1990 يغزو الكويت من دون إدراك للنتائج التي ستترتب على مثل هذه المغامرة المجنونة.

 

في أماكن كثيرة، كان «أبو عمّار» يشبه صدّام حسين مع الفارق بين دولة فلسطين غير الموجودة ودولة العراق التي كانت أكثر من موجودة. في الحالتين، كان هناك سوء تقدير لموازين القوى الإقليمية والدولية. لكنّ شخصاً مثل ياسر عرفات يمكن أن يُلام أكثر بكثير من صدّام حسين الذي جعل من نفسه أسير بلده والقصور التي كان ينزل فيها عندما يزور الاتحاد السوفياتي أو دولة من دول أوروبا الشرقية. حتّى عندما زار باريس، بقي صدّام أسير إطار ضيّق لم يخرج منه في أيّ وقت كي يتعرف على فرنسا وعلى ما هو حضاري فيها.

 

عرف «أبو عمّار» الكون بمشرقه ومغربه. كان في العام 2000 أكثر زعماء العالم تردداً على واشنطن. بقي على الرغم من ذلك غير ملمّ بكواليس العاصمة الأميركية. كذلك، لم يستطع في أيّ وقت فهم ما هي إسرائيل، ولماذا كان عليه التوصّل إلى صيغة اتفاق ما مع اسحق رابين الذي وقع معه اتفاق أوسلو، حتّى لو كان ذلك ضمن شروط معيّنة في غير مصلحة الجانب الفلسطيني؟ كان عليه، بكلّ بساطة، الوصول إلى ما يمكن البناء عليه كي يترك شيئاً ما للذين سيأتون بعده..

 

لم تنتهِ القضية الفلسطينية مع ياسر عرفات. هذا عائد إلى أنها قضية شعب لا يزال موجوداً على خريطة الشرق الأوسط. متى تعود القضية إلى الواجهة؟ المسألة مسألة وقت ليس إلّا. الثابت الوحيد في غياب «أبو عمار» أن كل كلام عن دولة فلسطينية تضمّ غزّة والضفّة الغربية لم يعد كلاماً في محلّه. لا لشيء سوى أن لا حل لغزة في إطار فلسطيني واسع بمقدار ما أن الحاجة أكثر من أيّ وقت إلى حلّ في إطار مصري لمشكلة اسمها القطاع..