في خطوة أثارت استغراب المتابعين، قررت النيابة العامّة لدى ديوان المحاسبة حفظ الملف المتعلق بالتحقيقات في صفقة «هيئة إدارة السير». هذه الصفقة فازت بها شركة «انكريبت»، وهي تمتد على سبع سنوات، وتبلغ قيمتها نحو 174.8 مليون دولار. ما نشرته «الاخبار» سابقاً بشأن الشبهات التي تحيط بمراحل عقد هذه الصفقة وإجراءاته، حرّك النيابة العامّة بوصفه إخباراً. إلا أن الضغوط منعت استكمال التحقيقات ودفعت إلى إصدار تقرير يغطي الصفقة. فهل انتهى الأمر عند هذه النقطة؟ حتى الآن تبدو الأمور متجهة إلى تطيير الصفقة بوسائل أخرى
يُحضّر النائب زياد أسود سؤالاً للحكومة عن المناقصة التي أجرتها هيئة إدارة السير، لتلزيم إصدار «رخص سوق ورخص سير المركبات الآلية ولاصقات إلكترونية ولوحات التسجيل الآمنة وبرامج مكننة مصلحة تسجيل السيارات الآلية».
في هذا الوقت، كشفت مصادر وزير المال علي حسن خليل، أنه يتجه لإعلان عدم موافقته على هذه الصفقة، بسبب مخالفة إجراءاتها قانون المحاسبة العمومية، ولا سيما لجهة عدم توافر الاعتمادات القانونية لتغطيتها.
تُعَدّ هذه النقطة أساسية، بحسب ما تقول المصادر، إذ إن قرار مجلس الوزراء منح الهيئة سلفة خزينة بقيمة 37.5 مليار ليرة لبنانية، في حين أن الصفقة تمتد على سبع سنوات، وتبلغ قيمتها الإجمالية نحو 174.8 مليون دولار. فهل يعني ذلك أن المناقصة باتت بحكم «الميت»؟
على قياس الشركة
في 24 تشرين الثاني الماضي وافق مجلس إدارة هيئة إدارة السير والآليات والمركبات على نتيجة المناقصة العمومية، القاضية بإعلان فوز شركة «انكريبت» (المملوكة من عضو مجلس إدارة غرفة التجارة في بيروت وجبل لبنان هشام عيتاني)، على شركتين منافستين (يملكهما كلّ من أسعد رعيدي وبيار ضومط).
فوز «انكريبت» بهذه الصفقة لم يكن مفاجئاً، فالخبر منتشر بين أوساط رجال الأعمال منذ إطلاق المناقصة، وقد ذكرت «الأخبار» في تقريرين نشرا في أول تشرين الثاني وفي 13 تشرين الثاني، أن في دفتر الشروط الكثير من الشوائب التي تجعله مفصلاً على قياس إحدى الشركات (للاطلاع على التقريرين: http://www.al-akhbar.com/node/218867 / http://www.al-akhbar.com/node/219628).
اتفاق تحت الطاولة
غير أن ما كان متداولاً بين رجال الأعمال، تضمّن الإشارة إلى اتفاق بين العارضين الثلاثة على فوز عيتاني، مقابل منح الآخرَين بعض الأعمال من الباطن. ورغم أن هذا الخبر يمكن إدراجه في خانة الشائعات، إلا أن فوز شركة عيتاني جاء بعد تأجيل فضّ عروض المناقصة أكثر من مرّة،
المناقصة أجريت من دون اعتمادات، ما يعرّض سلامة المشروع لمخاطر كبيرة
ولم تجرؤ أي شركة معروفة في هذا المجال على تقديم عروض بسبب المهلة القصيرة المعطاة. فالهيئة تمسكت بمهلة الحد الأدنى المنصوص عليها في قانون المحاسبة العمومية، وقرّرت أن تلتزم الحدّ الأدنى، رغم أن القانون وضعه على اعتبار أن كل مناقصة تستدعي وقتاً معيناً لا يجوز أن يقل عن 15 يوماً، وبالتالي ترك المهلة لتقديم العروض مرهونة بنوع الصفقة وحجمها وقيمتها. ويوضح قانونيون أن المقصود بهذه المدّة هو تلزيمات اللوازم الإدارية والمكتبية، لأنها تقع في أسفل لوائح التلزيمات وأقلّها أهميّة، في حين أن مشروع «تلزيم رخص سير ورخص سوق ولاصقات كرتونية ولوحات تسجيل آمنة وبرامج مكننة لمصلحة تسجيل السيارات لمدّة سبع سنوات متتالية» أكبر بكثير من إدراجه ضمن خانة الصفقات التي لا يحتاج تحضيرها إلى أكثر من الحدّ الأدنى للمهل.
مشروع بلا تمويل وبلا معايير
الشبهات تتجاوز إجراءات المناقصة التي أجرتها الهيئة. فالشبهات حول قانونيتها تبدو أكثر وضوحاً، فالمناقصة أجريت من دون اعتمادات. يُعدّ هذا الأمر فاضحاً في مشروع كهذا، وغياب الاعتمادات يعرّض سلامة المشروع لمخاطر كبيرة. وتنص المادة 57 من قانون المحاسبة العمومية على «ألا تعقد نفقة إلا إذا توافر لها اعتماد في الموازنة في السنة المعنية بها». وبما أن فترة التلزيم لسبع سنوات، فإن الأمر يوجب توفير الاعتمادات قبل السير بالمشروع، فضلاً عن أن المشروع لم يذكر الأسباب الموجبة لتحديد مدّة التلزيم بسبع سنوات وبدراسة جدوى. وبما أن تمويل المشروع جاء من خلال سلفة الخزينة، فقد بات واضحاً أن الحكومة تحتاج إلى إجازة من السلطة التشريعية لعقد نفقة على أساس قانون برنامج، وإذا توافرت الشروط القانونية لسلفة الخزينة، يشير قانونيون إلى ضرورة التصديق على قانون، لأن مدّة سلفة الخزينة هي لأكثر من سنة.
وبحسب القانونيين الذين اطلعوا على دفتر الشروط، فإن بنوده قاصرة عمداً، أو إهمالاً، عن «منع» السمسرة بين الفائز وبين شركات أخرى قد تلتزم أعمالاً من الباطن. فعلى سبيل المثال، البند 4-2-1-3 من دفتر الشروط لم يلحظ وجوب اكتساب الشركات والمؤسسات أي مؤهلات فنية أو تقنية، ما يجعلها تختص بلوحات التسجيل الآمنة، وبالتالي إن عدم امتلاك العارض مؤهلات تتعلق بتصنيع وتركيب لوحات التسجيل الآمنة واستبدالها بـ«امتهان أنظمة معلوماتية وبيومترية» يفتح الباب أمام التلزيم من الباطن.
كذلك، تبيّن أن بعض الأعمال ليست واردة في جدول الكميات، ما يعني أن تنفيذها سيتطلب جداول إضافية ستكلّف الخزينة مبالغ إضافية على قيمة الالتزام، وتبيّن أن هناك الكثير من العموميات في دفتر الشروط. فعلى سبيل المثال، إن وصف اللوازم والخدمات الواردة في جدول الأسعار، لم يتضمن وصفاً لخدمات الدعم والصيانة وأعمال المكننة وتحديد الأسعار. كذلك إن مكونات التقويم الفني جاءت نوعية وليست كمية، وبالتالي أصبحت المفاضلة بين عارض وثان غير قابلة للقياس، وهذا ينطبق على المادة 32 التي توجب على العارض تقديم شرح مفصل عن الأنظمة المقترحة والخدمات ذات الصلة، وتقديم المنهجية لتحقيق النظام الجديد… فهل هناك معايير لدى الإدارة لتقييم المفاضلة بين الشركات العارضة؟ لا بل إن علامات التقييم الفني والمالي وضعتها لجنة فضّ العروض بالتعاون مع رئيس الدائرة المالية أيمن عبد الغفور، فيما دفتر الشروط في مواده الـ22، 23 ينص على الاستعانة برأي خبير فني لا خبير مالي(!)
ضغوط على «الديوان»
على أي حال، إن النيابة العامة لدى ديوان المحاسبة كانت قد اعتبرت ما نشرته «الأخبار» عن مناقصة مفصلة على القياس إخباراً يستدعي التحقيق فيه،
لكنها لم تتوسّع في التحقيق بسبب ضغوط مورست من مكتب وزير الداخلية نهاد المشنوق على المراقب الأول الذي تولّى التحقيقات في الملف، فأصدرت قراراً يشبه رأياً استشارياً مدافعاً عن المناقصة، أكثر منه تدقيقاً في مدى صلاحيات هيئة إدارة السير، وفي مطابقة دفتر الشروط للمعايير العلمية والتقنية الواجب اتباعها لدى إطلاق المناقصات العمومية. فقد تبيّن للنيابة العامة، أن «دمج ثلاثة دفاتر شروط وإعداد دفتر شروط جديد لمناقصة واحدة قد تم بناءً على طلب صريح من وزير الداخلية نهاد المشنوق، وذلك لأسباب تقنية وإدارية…»، فهل أصبحت طلبات الوزراء الصريحة بمثابة «قوانين» يُستنَد إليها لاستصدار قرارات تبرّر لهم إجراء صفقات مشكوك في صحتها؟
ذهب تقرير النيابة العامة الذي وصفه بعض الخبراء القانونيين بأنه «ركيك» أبعد من ذلك في دفاعه عن قانونية المناقصة، فهو أشار إلى أن صلاحيات هيئة إدارة السير منصوص عليها في النظام المالي للهيئة وأن المادة 82 تتضمن: «على أن تجري الصفقات لجنة تتألف من رئيس وعضوين على الأقل تعيّن بقرار من مجلس الإدارة بناءً على اقتراح المدير العام». فإلى أي مدى أصبحت الصلاحيات محدّدة في النظام المالي للمؤسسات العامة؟ يجيب خبير قانوني بالإشارة إلى أن مهمات هيئة إدارة السير تحدّدت بموجب المرسوم 4082 وتحديد المادة 55 منه التي أناطت بالهيئة مهمات إدارية وتخطيطية: السهر على تطبيق القوانين والأنظمة المتعلقة بالسير، إدارة إشارات السير ومراقبتها، دراسة هندسة السير، تخطيط السير التشغيلي، تنظيم الوقوف على جانب الطرق، الإعلام والتوجيه. وقد أضيف إلى هذه المهمات، بموجب المرسوم 11244 صلاحيات مالية محدّدة في مجال دراسة هندسة السير وتشغيل أجهزة مراقبة وإدارة السير محصورة في إطار «إعداد دفاتر الشروط وتلزيم وتوريد وتركيب وصيانة تشغيل عدادات الوقوف». وبالتالي لا يمكن الهيئة أن تتوسّع في الصلاحيات باتجاه تلزيم إصدار رخص السوق والسير واللاصقات الإلكترونية ولوحات التسجيل الآمنة وبرامج المكننة، أي إن الاستناد إلى النظام المالي لا يقع في محله، نظراً إلى كونه ينظّم كيفية ممارسة الهيئة للصلاحيات التي تدخل ضمن اختصاصها ولا يمنحها أي صلاحيات جديدة.
وتقول مصادر مطلعة، إن قرار النيابة العامة لا يمكن تفسيره في أي حال من الأحوال على أنه مستند يثبت قانونية المناقصة بصورة نهائية كما تحاول وزارة الداخلية أن تشير، بدليل أن القرار اتخذ «لحفظ الملف»، أي في انتظار معلومات إضافية أو إخبارات أخرى قد ترد إلى النيابة العامة بشأن هذا الملف، وهو ليس مسوغاً يبرّر قانونية إجراءات التلزيم.
مصادر مطلعة تضيف شبهات أخرى إلى ملف الصفقة يجدر بالنيابة العامة أن تحقق فييها. تلفت هذه المصادر، على سبيل المثال، إلى أن محضر فضّ العروض موقع من قبل العضو الرديف في اللجنة رفيق سماحة، بدلاً من العضو الأصيل ناجي البرهون، وتبين من محضر فض العروض أنه جاء خالياً من مستند يبرر غياب الأخير عن هذه جلسة فض العروض. كل ما ذكره المحضر بهذا الخصوص أن اعتذاره عن الحضور كان شفهياً بعد اتصال أجرته الإدارة به وبرّر غيابه «بأوجاع رأس وسعال».