ليس مستَغرباً أن تثور اعتراضات حادة على مشروع قانون يؤسس لحرس وطني عراقي من أبناء العشائر السنّية. يدور الصراع حول نقطة رئيسية: لمن سيخضع هذا الحرس؟ ومن يعيّن ويعزل قادته ويرسم خطط عملياته؟ قادة كتل شيعية تتقدّمهم كتلة «دولة القانون» التابعة لرئيس الوزراء السابق نوري المالكي، تصرّ على أن يكون الحرس مرتبطاً بصورة مباشرة بمكتب القائد العام للقوات المسلحة (الذي هو رئيس الوزراء) لأن إيكال الأمر إلى حكومات المحافظات يهدد بتناحر طائفي مسلّح، وبأن تندسّ عناصر بعثية و «داعشية» و «قاعدية» في صفوف هذا الحرس.
لا يجانب المعترضون الصواب، إذ يقترحون أن ترتبط تشكيلات الحرس الوطني (ولنسمّه باسمه: الحرس السنّي) بالجيش النظامي وتخضع له. لكن خطر الاقتتال الطائفي يكمن في هذا الاعتراض الصائب بالضبط. وليس هذا تلاعباً بالكلمات. فليس مطروحاً قط إخضاع الحشد الشعبي الشيعي للقواعد نفسها. فهو، كما بيّنت في مقال سابق، تشكيلة كاملة الاستقلال. ولا يقلل من استقلاليته التنافس بين الميليشيات المنضوية فيه. يصف مراسل «نيويورك تايمز» رحلته إلى كركوك بعد تحرير قضاء جنوبها، فيقول أنه مرّ بثلاث نقاط تفتيش أولاها تحمل علم «قوات بدر»، والثانية علم «عصائب أهل الحق»، والثالثة علم كردستان على مدخل كركوك، حيث أبلغته البيشمركة أنها ستقطع يد من يقترب من نقطة تفتيشها. وفي كل تلك النقاط لم يرَ المراسل علماً عراقياً واحداً. الحشد جيش يفوق الجيش العراقي عدداً، ويبدو أنه يفوقه قدرة قتالية. وعلاقته بالأخير تمرّ شكلياً عبر مسؤول عراقي هو، كما تشير المعلومات الاستخبارية الأميركية، قائد في الحرس الثوري الإيراني. في عملية تحرير محافظة صلاح الدين الجارية الآن، أكّد قائد قوات التحالف الأميركي أن ثلثي القوة المهاجمة، التي يبلغ عددها ثلاثين ألفاً، هي من الحشد الشعبي والثلث الآخر من الجيش النظامي. وفي البيانات العسكرية العراقية لا يجري الحديث عن هجوم لقوات الحشد تحت إشراف الوحدات العسكرية مثلاً، أو بأوامر تلقّتها القوات من الجيش، بل نسمع عن «عمليات مشتركة». وإذ تتوافر للحشد كل هذه الإمكانات ويحظى بدعم إيران القوي له متمثّلاً في تولّي قاسم سليماني، القائد المحنّك لـ «جيش القدس» الذي هو وحدة النخبة في «الحرس الثوري»، مهمّة الإشراف والتخطيط لعمليّاته العسكرية، فضلاً عن توفير المعلومات الاستخبارية عن مواقع «داعش» وتحرّكاته. فليس من باب الادّعاءات الفارغة إعلان قادة الحشد أنهم ليسوا في حاجة إلى الدعم الجوّي للتحالف وهو ما دفع الأميركيين الشاعرين بالإهانة إلى الاعتراف بأن العراقيين لم يطلبوا منهم ذلك، ما اضطرّ رئيس الوزراء المُحرج حيدر العبادي إلى القول أنه لم يطلب تدخّل قوات التحالف خوفاً من تعرّض طائراتها إلى «نيران صديقة». أمام هذا الواقع، من حق السنّة التساؤل عمّا يحمله اليوم التالي بعد «داعش». لقد خبروا تجربة «الصحوات» المذلّة حين قادوا عمليات طرد «القاعدة» من العراق بعد أن عجزت الولايات المتحدة والقوات المسلّحة العراقية عن أداء تلك المهمّة. وحين انسحب الأميركيون انقطعت عنهم الرواتب الشهرية وانحلّت «الصحوات» ولم يتم دمج أفرادها بالجيش النظامي كما وُعدوا. ونعرف كيف أدّت سياسات الإقصاء والفساد والطائفية إلى بناء جيش غير مهني انهار وهرب قادته قبل أن يشتبك مع «داعش».
لا يريد السنّي تكرار تجربة نزع سلاحه لكي يواجه التهميش. ولا يريد أي عراقي تكرار تجربة اعتصامات السنّة في ساحات المدن السنيّة التي كان قمع رئيس الوزراء السابق نوري المالكي لها والتحريض ضدّها بصفتها حركات يقف وراءها البعثيون و «القاعدة» ودول إقليمية عاملاً رئيسياً في تأجيج غضب كان متأججاً أصلاً عاد الجهاديون بفضله إلى تلك المحافظات السنّية. كان في صفوف المعتصمين مجرمون وجهاديون، وكان بينهم من رفع صور صدّام حسين، وكان من بينهم من تلقّى دعماً من قوى إقليمية، هو مهما كان حجمه فإنه يقلّ بكثير عن الدعم الإيراني لحلفائهم في العراق. لكن الحكمة تقتضي التساؤل عن أسباب تقبّل عدد غير قليل من السنّة لهؤلاء وتفضيلهم لهم على مؤسسة الدولة، وهم الذين قاتلوا «القاعدة» بشراسة قبل سنوات قليلة واشتبك كثير منهم مع عناصرهم الذين اندسّوا بين المعتصمين.
ما سرّ هذا التلوّث السنّي والنقاء الشيعي؟ وهو مقلوبُ السؤال الذي ينبغي توجيهه إلى «داعش» وللجهاديين: ما سر تلوّث «الروافض» (الشيعة) ونقاء السنّة؟ لماذا نتوقع الاندساس في صفوف الحرس الوطني الموعود، وهو أمر متوقّع، فيما لا نتوقع حدوثه في الحشد الشعبي أو في القوات المسلّحة نفسها أو في قوات البيشمركة، وهو الآخر أمر مألوف في كل جيوش العالم وحركاته المسلّحة؟ ثمة مُضمَر يحسّه الجميع ولا يقوله محترفو تداول عبارة «إخواننا السنّة» أو «إخواننا الشيعة» الطائفية. لكن الوقائع التي يصمت المرء عنها تغدو سامّة، كما يقول نيتشه.
كان المضمر في عهد البعث، أن الشيعة والأكراد غير موالين للدولة. والمضمر اليوم هو أن السنّة غير موالين للعراق. وبرّر هذا لصدّام ارتكاب بشاعات بحق الشيعة والأكراد محوّلاً المضمَر إلى معلَن حين خرجت صحيفة «بابل» بسلسلة افتتاحيات تنعت «طائفة معيّنة» بكونها غير عراقية وأن أسباب زيادة السكّان الشيعة تعود إلى انتشار زواج المتعة بينهم. الشيعي إيراني الولاء حتى يثبت العكس. ما تعرّض له السنّة في عراق البعث ليس غير نتفة من بشاعات صدّام، لكن المضمر يظل قائماً: السنّة موالون للبعث و «القاعدة» و «داعش» حتى يثبتوا العكس. رحّب بعض السنّة باحتلال «داعش» مدنهم، وأذعن آخرون كما يذعن كل شعب للمحتل حتى يمتصّ الصدمة ويشرع بالمقاومة، وتوهّم البعض بأن مجيء حركة سنّية، قد يفرض عليهم شروط حياة قاسية لكنّه يخلّصهم من تجاوزات قوى أمن غريبة حتى اكتشفوا أن ما فرضه «داعش» عليهم لم يكن حياة قاسية بل استبداداً وحشياً. وغداً إذا تكرّر مشهد عام 2013 الذي أشعل حركة الاعتصامات السنّية علينا ألّا ننسى خلايا «داعش» التي ستظل نائمة تنتظر لحظة الاستيقاظ بفارغ الصبر.
سيمرّ الخلاص من هذه الأزمة عبر مخاض قاس نلحظ بوادره منذ الآن، إذ تنطلق عمليات بطيئة لإعادة بناء الجيش على أسس مهنية، فتتصاعد أصوات الاحتجاج لأن ضباطاً بعثيين سابقين يشاركون في القتال ضد «داعش». وإلى أمد لا يعرف أحد مداه، سيظل غرب العراق، وهو الذي كان أبناؤه الأشد عداء للوجود الأميركي، أميركي الهوى، فيما يظل شرقه خاضعاً لميليشيات إيرانية الهوى. وهنا أتعمّد ألّا أتناول وضع قوات البيشمركة لأنني، كما كتبت سابقاً، أعتبر كردستان منذ الآن دولة جارة قيد التأسيس بما فيها المناطق الخاضعة لسيطرة البيشمركة «الاتحاد الوطني الكردستاني» المدعوم إيرانياً والقريب من بغداد.
من السهل الحديث عن الإدماج التدريجي لقوات الحشد الشعبي والحرس الوطني ضمن تشكيلات القوات المسلحة العراقية. ولكن، أي معجزة ستقنع الحشد بالتنازل عن استقلاليته والخضوع لسلطة الدولة؟ ومن سيقوم بنزع أسلحة جيش الحشد الشعبي الجرّار الذي تدعمه قوى وشخصيات سياسية نافذة تعمل بدأب على إفشال الخطوات المتواضعة التي تسير عليها حكومة العبادي؟ وأهم من ذلك كله، كم مليوناً سينزل إلى الشوارع دفاعاً عن المحرّرين الذين قدموا التضحيات البطولية لتخليص العراق من «داعش»؟ عندها، سيكون السؤال المؤلم: هل تندمج الدولة في الحشد أم تسقط على يديه؟