IMLebanon

“سنة الوحش”

ما زالت أربعة أشهر طويلة تفصلنا عن “سنة الوحش”، وها هي حلّت بيننا من الآن، وطيْفها يجثم فوق صدورنا ونوافذنا. لم يعد للناس حولي من حديث آخر… السنة التي تقترب. الإشارات والتنبؤات (…) فمن موقعي رأيت الخوف. الخوف الفظيع، ينبع ويتعاظم ويستشري. رأيته يتغلغل في العقول، حتى عقول أفراد أسرتي. حتى في عقلي. رأيته يطيح المنطق، يسحقه، يهينه، ثم يلتهمه“.

أمين معلوف، “رحلة بالداسار

كان بالداسار يعيش في هناء من تجارة التحف والكتب القديمة. ثم قيل له إن ثمة كتاباً يحدّد يوم الدينونة، أو ساعة الحشر، وإنه قريب. وتكون تلك “سنة الوحش” والهلاك. وراح بالداسار يتذكّر سنوات الهناء والطمأنينة والجمال. وكيف انقلب كل شيء إلى رُعب. وراح كل شيء يتحوّل إلى قطة شرسة وخائفة، تواجه الحصار بمزيج من الأنين والزعيق والمخالب. وعمّ الجنون المدن. وارتدّ كل مخلوق إلى جداره.

لا أخجل من تكرار العودة إلى أمين معلوف وكأن لا شيء آخر لديّ أقرأُه، بل أعتزّ بذلك، وليس السبب أن أمين قد صار عَلَماً في الأكاديمية، بل منذ كتابه الأول، وقبل شُهرته “الحروب الصليبية كما يراها العرب”، لأن الروائي التائه في أوراق التاريخ هو أيضاً المتصالح العميق مع الهويّات التي تتكوّن منها نفسه. هو المسيحي الذي أفاق على معالم الحياة بلغة عربية، اللبناني الذي شغلَته، فتىً، القضية الفلسطينية، الحالم الذي كسرت الحرب شبابه، النُخبوي الذي رأى اليسار يتداعى نحو الخواء بلا تمهّل، متمرّغاً بفشله، متداعياً أمام يمين كاسر.

كل كُتب أمين، تجوب التاريخ من مكان إلى مكان، وتصبّ في نهر واحد: التلاقي. من “ليون الأفريقي” مُسلم الفاتيكان، إلى “سمرقند عُمَر الخيام”، إلى “بالداسار” إلى “أصول”، الذي نرى منه عائلة جدوده في “عين القبو”، تتوزّع على المذاهب وعلى المناطق وعلى المَهاجر، من كوبا إلى بوسطن، فيما يستقر، هو وأندريه وأولادهما، في الدائرة السابعة عشرة، باريس، لا يغيِّر شقّته المتواضعة على رغم موقع الأكثر مبيعاً.

الإنسان يُغادر الوطن، لكن الوطن لا يُغادر الإنسان. سألته خلال “الربيع العربي” على أي مشروع يعمل حينها، فقال، كيف لي أن أعمل؟ عقلي مأخوذ بما يجري. من المستحيل أن يصبح فرنسياً كاملاً، ومستحيل أن يظلّ لبنانياً فقط، يقول في “الهويّات القاتلة” أطروحته الذهبية حول خيوط الهويّة في ذاته وفي الآخرين: “بوسعنا أن نذكر عشرات الأمثلة في هذا السياق لتوضيح مدى التعقيد – المضحك أحياناً، والمأسوي غالب الأحيان – الذي تتّسم به آليات الهويّة، ولا سيما تلك المتعلقة بالمنطقة التي أنتمي إليها، أي الشرق الأدنى وحوض البحر المتوسط والعالم العربي، وخصوصاً لبنان، وهو بلد يعيش فيه المرء على الدوام تساؤلات حول انتماءاته وأصوله وعلاقاته مع الآخرين، وموقعه تحت الشمس أو في الظلّ”.

أو في أي مكان. منذ أن كتب أمين معلوف هذا الكلام، تفتّتت مكوّنات الهويّة اللبنانية (والعربية) إلى ذرّات. لم يعد الحل في خيارك الطبيعي، أي القومي. ولم يعد الانضواء في “الحركة الوطنية” ذا معنى أو أهمية، فلا وجود لها في أي حال. عليك اليوم أن تكون إما سنّياً وإما شيعياً. العروبة بادت في بلاد العرب مثل الذهبيات الأخرى، كالحريّة والألفة والوحدة والتراحم، أو التجاوُر، بين المكوّنات التي تحوّلت إلى تناقض وتنافُر وتربّص وتعالٍ وبغض.

نشرت “النهار” في زاوية “منذ 50 عاماً” خطاباً للرئيس السوري الفريق أمين الحافظ، ألقاه في طلاب جاؤوا يؤيّدونه ضدّ إضراب تجّار الحميدية (الثلثاء 27 كانون الثاني). كيف خاطب سيادته الجيل الطالع؟ قال: “سنسحق رؤوسهم وسنقتلهم في هذا الشهر. سيكون السيف قريباً في رقابهم(…) سيبقون في السجن حتى يموتوا كلاباً(…) إن الجرثومة لا يُقضى عليها إلاّ بالقتل. ثِقوا أنكم ستسحقون بأقدامكم أولئك اللئام(…) إننا سندقّ أعناق هؤلاء اللئام”.

لديّ نظرية عفوية مبسّطة هي أن حصاد اليوم تبدأ بذوره في زمن أبعد. الخطاب الذي نسمعه اليوم بدأ في أمكنة عدة منذ زمن بعيد. الإنسان لا يُولد عتيّاً ولا ظالماً ولا كاسراً. اللغة العنجهية تنشر الذُّل والهَوان، لكن الأذلاَّء يثورون يوماً في كل اتجاه، كما نرى في هذه الفوضى المرعبة من التناثر، بدل “صدام الحضارات” دخلنا في صدام المذاهب وحروبها، وهي لا تقلّ فداحة عن حروب الأديان، كما دلّ التاريخ الأوروبي، الذي يبدو أنه لم ينتهِ بعد. لقد تحارب المسيحيون في يوغوسلافيا السابقة في ما بينهم بالضراوة التي تحارَبوا فيها مع المسلمين. وتفجَّرت بين الفرقاء أحقاد قديمة كان قد أخمدها رجل رؤية مثل الماريشال تيتو، وفجّرها أرعن بلا رؤية، سلوبودان ميلوسيفيتش.

تقف الأمم دائماً على حافّتيّ السلم والحرب، الوحدة والصراع، لأن ما من دولة صافية العِرق في هذا العالم إلا إيسلندا، بسبب البراكين وغُبارها. من بين الحافّتين يقدر لها إما انتحاري تدميري وإما رجل عمار. الأول يضعها على أبواب “سنة الوحش”، الثاني يكمِّل بها نحو المراسي الهادئة، خصوصاً في أزمان الغلوّ الديني، أو القومي، أو العِرقي. ففي الولايات المتحدة عرف التاريخ إبراهام لينكولن – نبيل إلغاء العبوديّة الهمجيّة. وعُرف قبله الجنرال كاستر، الذي كان يُطلق جنوده لإبادة الهنود وهو يعزف على “الهارمونيكا” متلذِّذاً بالمشهد. وما ارتوى. لا من الدماء ولا من الموسيقى.

وبعد ذلك جاءت السينما الأميركية وغسلت عقول الناس في كل مكان، وجعلت الهندي القابع في أرضه، معتدياً على حقوق الرجل الأبيض و”حضارته”. وصار الكاوبوي هو البطل، وصورة البطل يمثّل أدواره أكثر رجال هوليوود وَسامة. السينما كانت تلفزيون اليوم ونشرة الأخبار وما يسمّى “وسائل التواصل الاجتماعي”، وهي في الحقيقة، وسائل التنافُر والتناقُر، وأحياناً، معرض ساخر للأحقاد واللغة الساقطة.

فالحرب يجب أن تدور على كل الجبهات. والتعبئة جبهتها الأهمّ. الديكتاتورية الكالفينية في الكنيسة قامت أولاً على التعبئة. الموت والضحايا يتبعون. الفريق أمين الحافظ، الذي انقلب ثم قُلب، عاش بقية عمره منفياً في بغداد، وحيداً، متندّماً على الأرجح على خطاب السحق والكلاب والرقاب. لكن الأثر الذي تركه في النفوس، لم يكن أثره كلاجئ سياسي، وإنما كرئيس للدولة يأمر بالإعدامات، التي كانت تسمّى في بغداد “الوَجبات”. وكان بعض أهل المدينة يمضي النزهات (البيكنيك) تحت أقدام الرجال المعلَّقين، كما روى الكاتب العراقي حسن العلوي.

ترسم خريطة مناخ ما، فتلحق بك الناس. أراد الجنرال كاستر أن يعزف، فأكثر جنوده قَتل الهنود كي يمتِّعوه بالموسيقى. كان الغرب يدعو إلى مشاهدة الإعدامات كي يردع ضعفاء النفوس عن الجريمة، فاكتشف أن بعض الحاضرين يشعر بالغثيان مدى الحياة، لكن معظمهم يشعر بالتمتّع.

لا خلاص للأمم والشعوب إلاَّ في الوسط. لم يُكتب لأمة البقاء خارج ذلك. لأن الوسط هو مكان الالتقاء، وهو المكانة التي يبشّر بها أبطال أمين معلوف، تفادياً لـ”سنة الوحش”. وما دون ذلك من حلول تخدير موضعي ووصْفة موقّتة. حوار “تنفيس الاحتقان” لا يمكن أن يكون بديلاً من “حوار بعبدا”. المسألة أكبر بكثير من احتقان عصبي. إنها مسألة بقاء لا تحتمل التكابُر ولا المكابرة ولا التكبُّر.

ليست لنا هوية واحدة، ولكن لنا مصير واحد وحياة واحدة وإلفة وحيدة. والأمم لا تحيا بتنفيس الاحتقان وإقامة الجدران العازلة، بل بإقامة الجسور. هذه طبيعة الحياة، وكل شيء آخر مَوات. ونحن محاصرون ومهدّدون في الداخل بسبب رؤيتين متصارعتين على الحدود وعبرها. وكان ذلك دائماً سبب حروبنا. العقود الذهبية الوحيدة كانت عقود الوسط، الالتقاء. كل شيء آخر كان رماداً، وطعْم الرماد في سبيل الخارج.