سنة “العقدة” الحكومية
عُقد حالت دون الولادة
قد لا تكون الانتكاسة التي أصابت تشكيل الحكومة في 21 كانون الاول 2018، هي الوحيدة في مسار التأليف الذي بدأ في 24 أيار 2018 بعد تكليف الرئيس سعد الحريري بمهمة التأليف عقب إجراء الانتخابات النيابية، والتي بلغت مدتها اليوم ما يزيد عن السبعة أشهر، لكنها قد تكون الأكثر أثراً على صعيد “الاحباط” وحالة “اليأس” التي أصابت اللبنانيين جرّاء هذه الانتكاسة، بعدما ناموا ذات ليلة خميس (20 كانون الاول) على تفاؤل بأن يوم الجمعة سيشهد ولادة الحكومة بعد فكفكة ما يسمى “العقدة السنية”، لتكون الحكومة عيدية الميلاد، لكن ما جرى يوم الجمعة من إختلاف حول مرجعية الوزير السني (جواد عدرا ) الذي قرر رئيس الجمهورية العماد ميشال عون أن يكون من حصته “لفض مشكلة” تمثيل “اللقاء اللتشاوري”، أدى إلى تبديد الآمال بولادة الحكومة خلال العام 2018 (بعدما نال عدرا القبول على تسميته من اللقاء وباقي الاطراف المعنية بالعقدة). ولعل صمت الرئيس الحريري منذ يوم “الانتكاسة” أبلغ دليل على حجمها، وإن كان مسار تأليفها يظهر أن الخط البياني لفرص إبصارها النور تعرج بين ذروة التفاؤل بإقتراب تشكيلها وأقصى درجات التشاؤم بإمكانية إبصارها النور، إذ أن مسار التأليف واجه ثلاث عقد هي العقدة المسيحية نتيجة الاختلاف على الحصص ونوعية الحقائب بين التيار “الوطني الحر” و”القوات اللبنانية”، و”العقدة الدرزية” بعد رفض رئيس الحزب “التقدمي الاشتراكي” وليد جنبلاط توزير النائب طلال إرسلان من حصته (3 مقاعد درزية في الحكومة)، وأخيرا “العقدة السنية” بعد إصرار “حزب الله ” على تمثيل “اللقاء التشاوري” في الحكومة وإلا فإنه لن يسمي وزراءه في “حكومة الوحدة الوطنية ” المزمع تأليفها. لكن كل هذه العقد ما كانت لتطفو على سطح التشكيل لولا نتائج الانتخابات النيابية التي جرت في ربيع العام 2018 (نتيجة القانون النسبي الجديد)، والتي نسجت لدى الكتل النيابية مقاربة جديدة عما يجب أن يكون عليه حجمها التمثيلي في الحكومة، بعدما أنتجت الانتخابات ثلاثة أفرقاء خرجوا من انتخابات 2018 أكثر ربحا، وأولهم كل من “الثنائي الشيعي” والحزب “التقدمي الاشتراكي” بعدما أظهرت صناديق الاقتراع بأنهم الاكثر تمثيلا في طائفتهم، وتمكن رئيس التيار “الوطني الحر” جبران باسيل من ترؤس الكتلة النيابية الكبرى، وحصول “القوات اللبنانية” على أكثر من ضعف مقاعد كتلتها في انتخابات 2009.
إذاً بدأت مرحلة التفاوض مع الرئيس المكلّف سعد الحريري في حزيران الماضي حول الحصص بسقوف عالية ومطالب كبيرة للأفرقاء المعنيين، ما أدى إلى تعثر التأليف الذي كان متوقعا له أن لا يستغرق أكثر من شهر على الاكثر، ومع تقدم الوقت كان ينقل عن الرئيس الحريري قوله بأنه “لن يعتذر ولن يتخلى عن مهمته”، وقد تزامنت هذه السقوف العالية مع نقاش فُتح عن صلاحيات رئيسي الجمهورية والحكومة في التأليف، وهذا ما أكده في أكثر من مناسبة الرئيس الحريري عن “تمسكه بصلاحياته الدستورية في تأليف الحكومة من دون سواه وتشبثه بها، وإن كانت المادة 53 من الدستور تنيط بالرئيس المكلّف اقتراح صيغة حكومية وحملها إلى رئيس الجمهورية كي يناقشاها ويتفقا عليها، وهذا ما فعله الحريري أكثر من مرة، وقدّم أكثر من صيغة إلى الرئيس عون لم تحظَ بموافقته، فلم تصدر المراسيم، لكن الرئيس الحريري نجح في فرض واقع جديد وهو أن أحداً لا يسعه بعد الآن انتزاع التكليف من الرئيس المكلّف، أي رئيس مكلّف، سواء كان مجلس النواب صاحب اختصاص تسميته، أو رئيس الجمهورية بتوجيهه رسالة إلى البرلمان لإنقاذ تعذّر التأليف، لأسباب نص عليها إتفاق الطائف الذي رسم الصلاحيات في المؤسسات الدستورية ومنها الرئاسة الثالثة ولذلك بات التكليف مطلقاً بين يدي صاحبه.
في ما يتعلق بالعقدة المسيحية فإن فكفكة مفاصلها أتى بعد اكثر من ثلاثة أشهر، بعدما قبلت “القوات اللبنانية” بأربع وزارات بدل خمس من دون حقيبة سيادية، شرط أن تسند إليها نيابة رئاسة الحكومة، وقد تخلى الرئيس عون عن نيابة رئاسة الحكومة التي كان يعتبرها أنها من حصة الرئاسة الاولى لـ “القوات”، التي من المفترض أن تنال ايضاً وزارات الثقافة والعمل والشؤون الاجتماعية، في الوقت الذي من المفترض ان ينال “التيار الوطني” كل من وزارات الخارجية، والدفاع والطاقة، والسياحة، أما في ما يتعلق بالعقدة “الدرزية” وبعد أن وافق رئيس الحزب “التقدمي الاشتراكي” وليد جنبلاط على أن يسمي الرئيس عون اسم الوزير الدرزي الثالث، (الارجح صالح الغريب، وهو من الأسماء التي اقترحها النائب طلال أرسلان)، لينال الاشتراكي حقيبتي التربية والصناعة.
في 29 تشرين الاول 2018 برزت ما يسمى “العقدة السنية”، بعد أن كانت الحكومة قاب قوسين أو أدنى من أن تبصر النور، حينها أعلن الامين العام لـ “حزب الله” السيد حسن نصر الله بأن الحزب لن يسلم اسماء وزرائه إلا بعد تمثيل ما يسمى بـ “اللقاء التشاوري” في الحكومة، عندها إتهم الرئيس الحريري “حزب الله” بعرقلة تشكيل الحكومة، بعد فشل جهود بذلها على مدى أكثر من خمسة أشهر لتأليفها، داعياً الكتل السياسية كافة الى تحمل مسؤولياتها، ووضع لاءاته، رفض توزير أي من النواب السنّة الستة، أو منح أحد منهم حقيبة من حصته.
بعد ذلك حصل نوع من الجمود في عملية التأليف لمدة أسبوعين ولم يحصل أي جهد جدي، عندها لوّح الرئيس عون بتوجيه رسالة إلى مجلس النواب “اذا ما استمر تعثّر تشكيل الحكومة، لأنه يعتبر أنه من الطبيعي ان يضع فخامة الرئيس هذا الأمر في عهدة مجلس النواب ليبنى على الشيء مقتضاه”.
هذا الموقف للرئيس عون الذي إرتكز على المادة 53/د الفقرة 10، ردّ عليه الرئيس الحريري ببيان صدر عن مكتبه الإعلامي محذراً من “محاولات النيل من صلاحيات الرئيس المكلّف وفرض اعراف دستورية جديدة تخالف نصوص الدستور ومقتضيات الوفاق الوطني”.
اضفى هذا السجال الدستوري، أجواء عمقت أحوال التشاؤم في البلاد، إلى أن حلّ 10 كانون الأول حيث بدأ الرئيس عون سلسلة مشاورات مع رئيس المجلس النيابي نبيه برّي، ثم الرئيس الحريري، ثم في الايام التالية “حزب الله” وصولاً إلى النواب الستة أنفسهم، انبثق منها تكليف المدير العام للأمن العام اللواء عباس ابراهيم معالجة ما يعرف بـ “العقدة السنية”، وبعد أن وصلت الحكومة إلى «المئة متر الأخيرة»، حال النزاع حول “عقدة جواد عدرا” والصراع على الحقائب دون إعلان التشكيل، فبعد أن اتفق على تسمية عدرا كممثل للقاء التشاوي، وقع الاختلاف بين “اللقاء” و”التكتل” على مرجعية عدرا السياسية وتمسك كل من الطرفين بأن تكون له وحده، ما يعني أن «العقدة السنيّة» قد تعقّدت من جديد، وإصطدمت رغبة التيار “الوطني الحر” بقرار “حزب الله” ومعه “حركة أمل”، بدعم مطالب “اللقاء التشاوري” بأن يلتزم عدرا التصويت داخل مجلس الوزراء بقرار كتلة “اللقاء” ولو كان من حصّة رئيس الجمهورية.
منذ هذه الانتكاسة لا يزال الرئيس الحريري يعتصم بالصمت، في وقت أعرب رئيس الجمهورية عن استيائه مما آلت اليه الاوضاع على مستوى تشكيل الحكومة، من المفترض أن تعاود الاتصالات لتذليل العقد أمام ولادة الحكومة زخمها مطلع العام 2019 كي لا تبقى البلاد تائهة في نفق المجهول القاتم.