أيام، وينقضي عام على الفراغ الرئاسي في القصر الجمهوري. لقد تغيّر الكثير، أصيب النظام بتشوّهات واسعة، أصبحت دساتير المرجعيات أهم من الدستور، إنشقَّ حجاب الهيكل، إجتاحته القبائل الفئويّة والمذهبيّة والطائفيّة، لم تعد كلمة «لبناني» فعل إنتساب الى وطن، بقدر ما أصبحت لصيقة منطقة وطائفة ومذهب، ومرجعيّة سياسيّة.
بعد عام على الفراغ، ثرثرات كثيرة في الكواليس الديبلوماسيّة، الإستحقاق إمتياز لبناني صرف، إلّا أنّ الفاعليات عجزت عن لبننته، فيما الخارج له أولويّاته، وتنافس المصالح لا يرحم، وإذا كان التنافس على النفط هو محور الإستقطاب الإقليمي – الدولي، فإنّ نفط لبنان يبقى خارج المعادلة، إنّه لا يزال يرقد تحت قعر البحر.
عامٌ على الفراغ، تغيّرت أمورٌ كثيرة، هكذا يُقال في الكواليس. لم يعد من جامع يجمع سوى إحتكار المصالح، وترتيب الحصص، وتوزيع الواردات. في كلّ يوم يمرّ هناك إثبات بأنّ النظام ليس صناعة وطنيّة، بل صناعة خارجيّة مستوردة، ومعلّبة بقوالب وأطر محليّة، وأنّ قوته ليست مستمدّة من ذاته، بل من الرعاية الدوليّة – الإقليميّة له.
إنه يتكئ حالياً على عكّازتين: المؤسسة العسكريّة التي عليها أن تواجه، وتدافع، وتنتصر، وتستمر ضمانة أمنيّة وطنيّة. والقطاع المصرفي الذي يفترض أن يبقى الضمانة للأمن المعيشي، الإجتماعي، الإقتصادي.
وما بين هاتين الركيزتين، يبقى هامش المناورة واسعاً، يستغلّه جيداً الطاقم السياسي الى أبعد الحدود للحفاظ على حضوره، ودوره، وحماية مصالحه من دون أن يقدّم جملة مفيدة، او قيمة مضافة لتغيير واقع الحال نحو الأفضل.
هذه حقائق يتحسّسها السلك الديبلوماسي المهتم والمتابع، ويتحسَّس أكثر المتغيّرات التي تُرخي بسدولها لتطبّع اللبناني مع واقعه، والواقع مع المتغيّرات التي تجرى في محيطه، وتحديداً في الحديقة السوريّة الخلفيّة.
في ظلّ الفراغ الرئاسي، وترهّل المؤسسات، يتأقلم اللبناني مع واقع جديد، مع مجتمع وافد، مع تغيير ديموغرافي، مع منافسة جديّة على لقمة العيش. هناك إنسجام بين وزراء الحكومة على التعاطي مع التحدّي الوافد للتقليل من تداعياته الأمنيّة، والإقتصاديّة، والإجتماعيّة والمعيشيّة، ولكن ليس من تفاهم حاسم على خطّة واضحة بعناوينها وتفاصيلها تقضي بمواجهة هذه الأزمة، وترسم خريطة طريق تؤدّي الى التحرّر من أوزارها، على المستويين القريب والبعيد، لأنّ «التوظيفات» السياسيّة، والمذهبيّة تطغى فجأة على السطح، وتفسد كلّ شيء.
في ظلّ الفراغ الرئاسي، تمدّدت رقعة المربعات المقفلة، وإنحسرت رقعة الوطن، لم تعد الأزمة في الداخل بل أصبحت على الحدود أيضاً، لم تعد محصورة بين سلاح شرعي وآخر لا شرعي، بل تطوّرت لتُصبح بين سلاح بلدي، وآخر دخيل، وسلاح بـ»خوذة»، وآخر بـ»طاقيّة او عمامة».
الى متى سيستمرّ الفراغ؟
ليس من جواب حاسم مقنع ونهائي عند اللبنانيين. يبدو أنّ الإستحقاق أبعد من هاماتهم، وأكبر من قاماتهم جميعاً، وتسليماً بهذه المعادلة تكرّ سبحة مواعيد جلسات الإنتخاب في ساحة النجمة، والنتيجة لا رئيس. الفراغ حصل في ظروف محليّة وإقليميّة ودولية ملتبسة، وعندما تزول، يزول. والفاعليات بغالبيتها تعرف ذلك، ولأنّها تعرف راحت تشغل الوقت الضائع بالتنافس على ما تبقى في ضرع الدولة.
تشريع الضرورة، ضرورة، ولكن وراء الكلمات المفعمة بالوطنيّة هناك خفايا وخبايا سياسية ومصلحيّة ومذهبيّة وطائفيّة وكيديّة وتنافس شديد الإحتقان حيث يحاول كلّ طرف أن يسدّد الكرة في مرمى الطرف الآخر لإظهار مدى قوته ومقدرته أمام جماعته وطائفته ومحيطه.
بعد أيام، يقطع اللبنانيون الكعكة، إحتفاءً بمرور عام على الفراغ، مناسبة تستدعي صحوة ضمير للخروج من دوّامة العجز والتقصير والإصرار على الإستمرار متكئين على عكازتين، المؤسسة العسكريّة، والمؤسسة المصرفيّة. عام على الفراغ، ولبنان الآتي لا تصنعه إرادة محليّة واضحة المعالم، بل إتكالية مطلقة على الإرادة الخارجية التي ستقرّر كيف سيكون… ومتى… وإن كانت المتغيرات السارية تحمل سمات مستقبليّة.