Site icon IMLebanon

سنوات مرت على حادثة بوسطة عين الرمانة وحرب السنتين

سنوات مرت على حادثة بوسطة عين الرمانة وحرب السنتين

الجمهورية واجهت أسبوعاً صعباً ومواقف حادة

ورياح التقسيم تهب من جديد على لبنان

كان ذلك يوم الأحد الواقع فيه الثالث عشر من نيسان ١٩٧٥. سمع اللبنانيون من اذاعة مونت كارلو أن حادثاً خطيراً وقع في منطقة عين الرمانة، بين عناصر تنتمي الى حزب الكتائب اللبنانية، وقوى فلسطينية، كانت قادمة أو ذاهبة الى مخيم تل الزعتر.

وازداد الخبر غموضاً، في منطقة تقع بين ضاحية معروفة في بيروت، وبين المخيم الواقع على حدود الحازمية. فتح اللبنانيون راديوهاتهم على اذاعة لبنان، وكانت الوحيدة في تلك الحقبة التي تقوم بنقل الأخبار، لكنهم لم يسمعوا شيئاً، سوى أخبار عن السودان. لم يدرك أحد منهم أن حرب السنتين قد بدأت، ومعظم ما عرفوه أن التوجيهات أعطيت الى اذاعة لبنان الرسمية بعدم بث أي شيء عن الحادث، لأن رئيس الجمهورية سليمان فرنجيه موجود في مستشفى الجامعة الأميركية، ورئيس الحكومة رشيد الصلح يعالج الأمر، وتعاظمت الأسئلة وامتدت الى كل مكان.

فجأة، رنَّ الهاتف في وزارة الاعلام، كان على الخط أحد مرافقي رئيس الجمهورية، وهو يسأل، باسم فخامة الرئيس عما حدث في عين الرمانة، والمعلومات اشارت الى أن رئيس حزب الكتائب الشيخ بيار الجميل موجود في الكنيسة التي وقع أمامها الحادث، وان الرئيس فرنجيه قلق على صحة الوطن، أكثر مما هو قلق على صحته شخصياً، ويريد الاتصال بوزير الاعلام، للوقوف منه على حقيقة ما حدث. وكان من عادة الرئيس فرنجيه، أنه يضع ٤ ترانزيسترات الى جانبه، ليسمع من خلالها أكثر الاذاعات. بعد وقت قصير كان على الخط الوزير محمود عمار، المقيم في محلة مار تقلا – الحازمية فأدلى بتصريح عن اجتماع مجلس وزاري برئاسة الرئيس رشيد الصلح. لم يكن أحد يدري ساعتئذٍ حقيقة ما حدث، وان حرباً قد بدأت لمدة عامين، وتفرعت عنها حروب استمرت سبعة عشر عاماً.

كان ذلك الأحد، مطلع فصل الربيع، ولا أحد يدري أن الوطن بدأ يحترق، وأن ثمة حادثاً كبيراً قد وقع في ضاحية عين الرمانة – الشياح، من جراء اطلاق نار مفاجئ شمل مواطنين ينتمون الى حزب الكتائب، ومواطنين فلسطينيين، ينتقلون الى مخيم تل زعتر بواسطة بوسطة من دون أن يعلم أحد أن بوسطة عين الرمانة ستكون عنواناً لحرب التهمت عشرات الضحايا.

وكل ما تيسر من أخبار، كان يشير الى أن رئيس حزب الكتائب الشيخ بيار الجميل، كان يحضر قداساً، وبعد مراسم الصلاة سُمعت أصوات نار كثيفة تتعالى في أرجاء المنطقة.

واتضح فيما بعد، أن من بين ضحايا ذلك الحادث الأسود، أحد شبان الكتائب من عائلة أبي عاصي وفلسطينيين.

وتقول المعلومات إن رئيس الجمهورية سليمان فرنجيه كان يتابع ما حدث من سريره في مستشفى الجامعة الأميركية، اثر خضوعه لعملية جراحية، ومعظم الأخبار يورد أن مجزرة رهيبة وقعت في عين الرمانة.

ويقول الصحافي عادل مالك، الذي كان يعدّ نشرة الأخبار في تلفزيون لبنان في الحازمية، إنه وجد نفسه في إرباك شديد، نظراً لضآلة المعلومات، وهو لا يستطيع أن يطل على الشاشة الصغيرة وتقديم نشرة الأخبار، من دون الاشارة الى ما حدث.

ويقول إنه كان في طريقه الى الاستديو، ولا يملك ما يورده للناس.

كان المدير العام للاعلام رامز خازن في منزله، ومدير الاذاعة كاظم الحاج علي في بيته، والوزير محمد المشنوق الذي كان يتولى مديرية الوكالة الوطنية للاعلام غير موجود.

الا ان الاذاعي عادل مالك قام، بما تيسر له من أخبار وبعلاقاته كسكرتير تحرير عام في جريدة الجريدة وبعلاقاته الخاصة مع جريدة الأوريان وصاحبها الوزير جورج نقاش، بتقديم مضبطة اعلامية لحدث اعلاني كبير.

ويُقال إن حادث عين الرمانة كان الشرارة ل حرب أهلية شرسة رسمت حدود التقسيم في لبنان بين بيروت الشرقية وبيروت الغربية.

ومع مرور الزمن، بدت جبهة الشياح – عين الرمانة كأنها موقع ستالينغراد في الحرب المدمرة بين الجيش السوفياتي والقوات النازية.

رافق اندلاع أقسى المعارك وشراستها الاتهامات المتبادلة بين الجانب المسيحي من جهة والجانب الاسلامي والفلسطيني في الجانب الآخر، ليتضح لاحقاً أن لبنان سقط في واحدة من أقذر أنواع الحروب، تداخل فيها العديد من العوامل والعناصر.

يومئذٍ، قال الرئيس المصري أنور السادات، إن لبنان كارثة أفظع من كارثة فلسطين… ألا تكفينا فلسطين واحدة؟

وأردف: انني على استعداد للذهاب الى بيروت، وتأمين اللقاء بين الرئيس سليمان فرنجيه والسيد ياسر عرفات، ولن أغادر العاصمة اللبنانية، قبل التوصل الى حل للوضع الاشكالي الكبير، وهذا ما يجب أن يتم التوصل اليه قبل فوات الأوان.

وفعلاً، فات الأوان. وإذا بالوضع المتفجر في لبنان لا ينتهي بسنتين. واذا بالقبرصة تسود فيه كحالة تقسيمية، ولو أنها لم تكن معلنة من حيث القانون الدولي، واذا بالجنوب اللبناني يتعرض لحركة نزوح، ويشكل كارثة أكثر فداحة من فلسطين في العام ١٩٤٨.

وهذا ما شكل بداية همّ كبير، بدأ يطرق الأبواب، ويهز الضمائر والنفوس.

من جهة اخرى، كان الوزير وائل أبو فاعور، في الاسبوع الماضي مشغولاً بالمشاكل الصحية التي انتابت وتنتاب اللبنانيين، خصوصاً بعد فضائح الاجهاض، والكوارث الصحية، والمحاذير العديدة المهددة لكل مواطن في الجمهورية.

كان الوزير التقدمي يحارب على عدة جبهات، أبرزها جبهة المرض، وجبهة الدواء، وجبهة الأطباء والممرضات الذين يتولون عمليات اجهاض السيدات وكأن لبنان تحول الى وطن بلا سيادة، والى بلد من دون حصانة تقيه الحرب القذرة المشهرة على الانسان فيه.

ويقال إن ما أذهل الوزير ابو فاعور وقوف الوزراء المسيحيين الأربعة: وزيري التيار الوطني الحر بالاضافة الى وزيري الكتائب، في جلسة مجلس الوزراء الأخيرة، ضد حجب الاعتمادات عن المديرية العامة لأمن الدولة، لأن نائبه لم يوافق على طلباته المالية، وهذه كارثة سياسية تصيب اتفاق الطائف وتهدده بالانهيار.

ويقال ان الوزراء المسيحيين في الحكومة، المختلفين على كل شيء، اتفقوا على شيء واحد، ألا وهو الاعتراض على تهميش الدور المسيحي في الحكومة، والعودة الى نغمة التقسيم على صعيد الأداء السياسي للسادة الوزراء.

وهذا ما بات يتطلب موقفاً حاسماً من رئيس المجلس النيابي نبيه بري الموجود الآن خارج لبنان، ومن رئيس الحكومة الحريص على استمرار حكومته، في غياب استمر عامين لرئيس الجمهورية عن منصبه.

والخلاف الطائفي جعل وزيراً ينتمي الى كتلة الرئيس السابق ميشال سليمان يتجاهل موقعه كركن من أركان تيار الاستقلال، ويعارض حقوق متداولة، للمدير العام لوزارة أمن الدولة التي تحظى ايضا بتأييد الوزير ميشال فرعون.

هل انشق التحالف السياسي على دعم وثيقة الوفاق الوطني، ام ان اتفاق الطائف، بات بحاجة الى ترميم وتوقيف قبل سقوطه في وهاد التقسيم السياسي؟

ويقول الرئيس حسين الحسيني إن الجمهورية لا يجوز أن تبقى سجينة القبرصة وأسيرة الوحدة، في بلد يحتاج الى الوحدة، قبل أن يعود الى وقائع التقسيم.

ويرى الرئيس الحسيني ان اتفاق الطائف حمى لبنان من تداعيات التقسيم التي لا تزال آثارها مستمرة، وان اللبنانيين مدعوون جميعاً الى اللبننة، وهذا أكثر وأهم من انشغالهم بالحرتقات.

كانت الحرب غامضة سابقاً، ولا سيما بعد صعوبة حرب العودة الى فلسطين. والآن تبدو أمام اللبنانيين حربا من نوع آخر، تهدف الى حل مأزق النزوح السوري، الى الأرض التي هجروها أو هجروهم منها.

هل كانت زيارة الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون ورئيس البنك الدولي ورئيس البنك الاسلامي، للمزيد من المساعدات للنازحين أو للمزيد من البقاء في لبنان ولا تنطوي على رغبة في عودة غير متيسرة الى بلاد هجروها أو غادروها.

هل تبدأ قصة جديدة عنوانها قصة الحرب في لبنان؟

يدعو الكاتب عادل مالك الى استقراء جديد للصيغة اللبنانية، واستقراء المستقبل، على الرغم من صعوبة استحضار الماضي المتمثل بتاريخ لبنان الحديث.

قد يكون من المنطق، اعتبار اعلان استقلال لبنان عن فرنسا في العام ١٩٤٣ اثر اعلان الاستقلال غامضاً، لكن الزعماء الوطنيين من مسلمين ومسيحيين، اتفقوا على صيغة العيش المشترك، التي قضت بأن يتخلى المسيحيون عن فكرة الارتباط بالغرب، ويتخلى الفريق المسلم عن الارتباط بالشرق. وهذا ما عُرف بالميثاق الوطني. الا انه بعد اتفاق الطائف اصبح جزء منه مكتوباً، أما الثاني فهو موضوع نقاش صعب وطويل.

هل يعقل أن تمر الجمهورية في مدة عامين، وليس على رأس البلد رئيس لها.

هل يعقل أن ينشأ نزاع على الوظائف، ابتداء من الفئة الثانية، وكأن البلد، موضوع على الطاولة للتوافق على الوظائف دون الأولى.

وسنة بعد سنة تكرّس التعايش، وأصبح الميثاق غير المكتوب ممارسة يومية يعيشها اللبنانيون، واتخذت هذه المعايشة الطابع الاجتماعي في تنامي العلاقات بين الطوائف والعائلات الروحية وتوزيع الوظائف على هذه الطوائف عبر مقياس دقيق ومتوازن، ولو الى حين، وقبل أن يؤدي تولّد التراكمات على اختلافها الى اختلال في هذا التوازن، لتتحوّل نعمة التناغم الطائفي الى… نقمة، حسبما سيتضح في زمن لاحق.

لقد حمل قيام ثورة ١٩٥٢ في مصر من تموز يوليو عهداً عربياً جديدا تمثّل في تولّي الرئيس جمال عبدالناصر السلطة، ونشأ معه تيّار جارف من القومية العربية. وتعاظم هذا الشعور بعد حرب السويس في العام ١٩٥٦، الأمر الذي حرّك المخاوف لدى الأقلية المسيحية في لبنان نتيجة اختلاط مفهوم القومية العربية الى حدّ بعيد مع الاسلام، فأمست القومية العربية بفعل بعض الممارسات الخاطئة تعني لفريق من أبناء الطائفة المارونية خصوصا، والمسيحية عموماً… الاسلام. وساعد على ذلك تعبير الشارع الاسلامي بالعنف والقوة عن نزعة المشاعر القومية.

وفي العام ١٩٥٨ تعرّضت صيغة التعايش اللبناني الى أول اصابة خطرة ومباشرة، فرئيس الجمهورية اللبنانية في حينه الرئيس كميل شمعون اتهم بأنه يسعى الى تمديد ولايته الرئاسية ست سنوات جديدة، وهذا يخالف الدستور اللبناني، كما اتهم بأنه يعمل على ربط لبنان بأحلاف أجنبية، ومن أبرزها حلف بغداد أو مشروغ ايزنهاور، فقامت ثورة مسلحة بدأت شرارتها باغتيال الصحافي نسيب المتني صاحب جريدة التلغراف. وذلك في التاسع من شهر أيار مايو من العام ١٩٥٨، واستمرت الثورة نحو ستة أشهر، ولم ترغم الرئيس كميل شمعون على التنازل قبل انتهاء ولايته الدستورية، وانتهت بانتخاب قائد الجيش اللواء فؤاد شهاب رئيسا للجمهورية.

خاض الرئيس شمعون سنة ١٩٥٨ حرباً ضد المدّ الناصري، وخاضها المعارضون لتأكيد عروبة لبنان وضد خروجه عن الصف العربي.

واتخذت تلك الأحداث أبعاداً عالمية أدّت الى نزول قوات من مشاة البحرية الأميركية على الشاطئ اللبناني غداة وقوع انقلاب عسكري في العراق، أطاح الملكية والملك فيصل وسائر رموز العهد الملكي. وكان ذلك في الرابع عشر من تموز يوليو من العام نفسه.

ورغم توزّع القوى المعارضة والموالية ووجود شخصيات مسيحية في صفوف المعارضة، وفي طليعتهم بطريرك الموارنة الراحل مار بولس بطرس المعوشي، ارتدت ثورة ١٩٥٨ الطابع الطائفي في جانب من جوانبها، وحدث تصدّع أساسي في بنية التركيبة اللبنانية.

ورغم الثورة، ظلّت الشرعية قائمة حتى اللحظة الأخيرة من موعد انتهاء ولاية الرئيس شمعون، الى أن تم التسليم والتسلّم بين الرئيس شمعون واللواء شهاب.

على أن عملية التوازن التي أريد لها حفظ حقوق الطوائف كرّست مع الزمن النظام الطائفي، وصارت مهمة الحكم الحرص على هذه الطائفية بما عُرف تندّراً بمبدأ ٦ و٦ مكرّر، فليس من مسيحي ويمكن أن يوظف إلا اذا توفّر مسلم آخر في المقابل، وبذلك أصبحت الوظائف ملك الطوائف أو ما يمكن أن نسمّيه بدولة الوظائف للطوائف، وصارت الطائفة هي المقياس وليس الكفاءة.

ومن خلال التجربة اللبنانية بات من الطبيعي طرح السؤال: هل إن التعايش يفرض الصيغة؟ أم ان الصيغة هي التي تفرض طريقة عيش أو طريقة معينة؟

وباسم الموضوعية في تحليل الواقع اللبناني، علينا الاعتراف بأن صيغة التعايش في لبنان كانت في أكثر الأحيان منذ ولادتها في خيمة الأوكسجين، فما إن تخرج منها حتى يُخشى عليها من الاختناق. وفي كل مرة تصاب صيغة التعايش بعارض وطني، كانت تعالج دائماً بالمهدئات، واستمر الوطن الصغير بفعل الأعجوبة اللبنانية، بلد العديد من السيّئات والآفات والتناقضات مع الكثير من الحسنات والمفارقات.

وفي ما يتصل بعلاقات لبنان العربية، وهو العضو المؤسس لمنظومة جامعة الدول العربية، فالانجازات البارزة تكاد تكون معدومة. ذلك أن هذا الجهاز فشل في أداء دوره الرئيس والأساس، وهو رعاية التضامن العربي المشترك والعمل على تعزيزه.

لكن مع نشوب الأحداث في سوريا العام ٢٠١١ سقطت مؤسسة الجامعة بضربة قاضية، حيث شهدت حالاً من الخلل والتفتيت والتنابذ، هي حال العرب المأساوية.

على أن امكانات مشاركته مع الدول العربية كانت محدودة، وكثيراً ما كان الأمر يقتصر على اقامة علاقات أخوية وجيّدة. وفي ما يتصل بالنزاع العربي – الاسرائيلي، كان الدور اللبناني يقتصر على الحدّ الأدنى من الممارسة العملية في اطار معركة المصير مع اسرائيل، وخاصة عندما بدأ طرح معادلة دول المواجهة ودول المساندة. وعندما وقعت حرب الخامس من حزيران يونيو من العام ١٩٦٧، كسب لبنان الحرب سلبياً، إذ أنه لم يشارك فعلياً في حرب الأيام الستة.

ويقول عادل مالك انه كان لا بد من هذا التقديم للاضاءة على خلفية الأحداث التي سبقت اندلاع شرارة الحرب الأهلية في العام ١٩٧٥. وفي معرض تطابق مضمون الكتاب مع عنوانه في الشكل وفي المضمون، عمدت الى تسجيل دقيق وأمين لما اتصفت به ما أطلق عليها حرب السنتين.

هذا الكتاب هو لأكثر من طرف ولأكثر من جهة، فهو للأجيال التي عاصرت أحداث السنتين، وللأجيال الأخرى التي ولدت مع اندلاع الحرب، ليكونوا على بيّنة مما حدث، علّهم يستوعبون ما جرى حتى لا يقعون في الجريمة الكبرى بحقّ لبنان مرّة أخرى.

إنّ هذا الكتاب محاولة ولو متواضعة لفهم حقيقة ما جرى في لبنان، وفي سبيل إنعاش الذاكرة لدى مختلف الأجيال حتى لا يذكروا هذا الماضي القاتم… وطبعاً حتى لا يكرّروا الأخطاء التاريخية نفسها.