فرنسا، أيار عام ١٩٦٨ سيبقى مزروعاً طويلاً في الذاكرة الكونية، وأكثر في الذاكرة الشعبية الفرنسية… فور وقوع مظاهرات في دولة ما توحي بانتفاضة طلابية أو شعبية تطالب بالتغيير، تقع المقارنة مع أيار ١٩٦٨. لا تنجح المقارنة في أغلب الحالات لأن فرنسا مميزة في طرحها للأفكار المنتجة… لذلك ليست مفاجأة بين ما جرى ويجري حالياً في باريس وما دار في الماضي. استحضار التشابه بين الحدثين ليس خارجاً عن الواقع، لكن هذا لا يعني أبداً التطابق الموصل الى الخلاصات ذاتها، حتى ولو كانت الساحة نفسها وبعض الأحداث والوقائع متشابهة كثيراً. يوجد فرق كبير بين الماضي والحاضر بدايته الطلاق القائم حالياً مع الأيدولوجيا والفكر والقيادات والزعامة التاريخية والشعبية للجنرال ديغول ورئاسة الشاب إيمانويل ماكرون، هذا إضافة الى الفرق الكبير في نوعية القيادات السياسية…
حركة «السترات الصفر» وُلدت من قرار ضريبي يقع على عاتق كل الفرنسيين ويزيد من معاناتهم اليومية الصعبة أصلاً، لان القدرة الشرائية للفرنسي من اي طبقة كان، لكن خصوصاً محدودي الدخل، تتراجع رغم ارتفاع الحد الأدنى للأجور. في ١٧ نوفمبر وقعت المظاهرة الاولى الرافضة لزيادة سعر الوقود. استعارت اسمها من قرار يُلزم جميع سائقي السيارات ان يرتدوا هذه السترة اذا اضطروا لأمر طارئ التوقف على الطريق والنزول من سياراتهم. الرمزية واضحة ان الفرنسيين أصبحوا يواجهون حالة طارئة تُعرّضهم للخطر ويجب مواجهتها فوراً. لم يُدرك أحد خصوصاً الرئيس ماكرون ولا رئيس وزرائه عمق الأزمة وإمكانية تحويل دعوة من مجموعات غير معروفة وبلا قيادة معلومة الى مواجهات تعرّض فرنسا للخطر وصولاً الى دعوات للرئيس بالاستقالة… ما زاد «في الطين بلّة» ان الرئيس الشاب إيمانويل ماكرون وبعد ان شاهد العنف في البدايات رفض تقديم اي تنازل «لمثيري الفوضى» حتى اذا جاء «السبت الأسود» في الاول من هذا الشهر ولمس آثاره في جادة الشانزليزيه فور عودته من قمة العشرين في الأرجنتين، قرر «ان يفتح باب الحوار»، والسؤال الآن هل تأخر الرئيس عن مواجهة الازمة؟
إطلاق «السبت الأسود» ليس مجرد تعبير إعلامي: الخسائر ضخمة جداً. عدة مبانٍ ومحالّ نُهبت وأُحرقت عن عمد، وعشرات الواجهات حُطّمت، كل ذلك والبلاد كلها تستعد لاستحقاقات الاحتفالات بالأعياد خصوصاً عيد الميلاد. ارقام الخسائر مخيفة. ألغيت حجوزات ٢٥ الف ليلة في الفنادق، انخفضت أرباح المطاعم بنسبة ٦٠ ٪ وخسر قطاع هدايا الأطفال الكثير، علماً ان أرقامه في هذه الفترة تصل الى أربعة مليارات يورو. كذلك قُدّرت خسائر المحالّ الكبرى بحوالي ٤٠٠ مليون يورو والخسائر مستمرة… وما ذلك كله الا لان مجموعات معروفة بفوضويتها نزلت الى الشوارع واخترقت المتظاهرين فدمّرت وسرقت ومنها مجموعات: Blaks Blocs وVrais ومجموعات الضواحي واخيراً من المزارعين الغاضبين … لقد فار العنف وانتشر الى درجة إحداث «جرح جماعي للأمة» عندما كتبت شعارات على «قوس النصر» الذي لم يُمسّ منذ ان جرى تدشينه.
السؤال الطبيعي: ما العمل وما هي الحلول الممكنة؟
المشكلة الاولى هي في تبلوُر قيادات لهذه الحركة لفتح الحوار معها. ومن ثم الاندفاع لتنفيذ خطة عمل تخرج وتتبلور من الاقتراحات التي بدأت تتكاثر حاليا ومنها: حلّ البرلمان وإجراء انتخابات جديدة ومبكرة، وعقدة هذا الاقتراح انه يُنتج انتحاراً سياسياً للرئيس وأغلبيته ولذلك فإنه مرفوض حُكماً. ايضاً تغيير رئيس الحكومة المتشدد والسؤال: من هو البديل؟ علماً ان من سيخلفه يجب ان يكون قادراً على الجمع لوقف الانقسام. إقامة طاولة مستديرة تضم كل قادة الأحزاب والقوى المؤثرة وهذه العملية ليست سهلة في ظل محاصرة اليمين المتطرف واليسار المتشدد في وقت واحد للرئيس وأغلبيته، ولكن ايضاً لليمين الجمهوري والحزب الاشتراكي…
لا شك ان المهمة الاولى للرئيس وللحكومة وقف الانحدار السريع للأزمة نحو أزمة غير محدودة النتائج الخطيرة على الاقتصاد اولاً، وعلى فرنسا كلها ثانياً. سياسة «القبضة الحديدية» فشلت لأنها لم توقف «محدلة» المواجهات. سياسة الحوار يجب ان تُنتج حلولاً سريعة خصوصاً وأن رفع أسعار المحروقات ليس سوى «نقطة الماء التي فاضت بها الكأس»، وكل ذلك في وقت يرى فيه الكثيرون ان الأزمة أعمق من هذا بكثير، لان الأساس في «ان الجمهورية الخامسة في حالة احتضار»، ولا يجرؤ احد على طرح البديل جدياً لتقوم «الجمهورية السادسة»…