تجمعوا حول الطاولة المستديرة. بالكاد يظهرون أمام ضخامتها. هي هدية أولى للشعب اللبناني المنتفض. صار لديه مقر ثابت للحوار، في الطبقة الثالثة لمجلس النواب، وإن أمل الرئيس نبيه بري «أن لا تستدعي الحاجة الى الدعوة لجولة أخرى».
بالبيض كان المتظاهرون ينتظرون المتحاورين على أبواب «القلعة» التي استحدثتها شرطة مجلس النواب. أسوار حديدية عالية رفعت في كل الطرقات المؤدية إلى ساحة النجمة ومن مسافات بعيدة. حدودها زحفت أكثر بكثير من حدود المنطقة الأمنية التقليدية لمجلس النواب.
السلطة كانت خائفة من الناس. ولولا ذلك لما كان هنالك مبرر لكل هذه الإجراءات الأمنية. المتظاهرون لا يملكون إلا حناجرهم.. والبيض. لذلك، لم يكن أمام المجتمعين سوى التسلل، هرباً من زخات البيض، التي تمكنت من بعض المواكب، فيما تكفلت الإجراءات الأمنية بإبعاد أصوات من يهتفون «فليسقط حكم الأزعر».
نزل المعتصمون غير آبهين بالرمال التي ملأت الجو، مصحوبة بحرارة عالية ورطوبة استثنائية. كان دافعهم أقوى من الظروف الطبيعية التي عاندوها، صباحاً ثم مساءً، ليقولوا لا لـ «الحوار الأصفر»، الذي لا يهدف إلا إلى «تطويق التحركات الشعبية، وإلا كيف يفسر المتحلقون حول الطاولة اجتماعهم اليوم لمناقشة بنود أقل ما يقال فيها إنها غير طارئة. فهل اكتشف الزعماء فجأة أن الرئاسة الأولى شاغرة؟ وهل اكتشفوا فجأة الحاجة إلى قانون انتخاب؟». القصة، بحسب ما يرى منظمو الحراك المدني، واضحة: السلطة بحاجة إلى توحيد جهودها لمواجهة الصحوة الشعبية. ولذلك، فإن لا مبرر لمفاقمة الأزمات عبر إقفال مجلس الوزراء والبرلمان.
الرئيس نبيه بري قال إنه «لا بد من هذا الاجتماع من أجل خلاص وطننا من حالة الجمود الراهن حتى لا نعثر على وطننا في مكب التاريخ». هو رأى أن «السلبية المتأتية عن السياسات الخاصة والمصلحية والحزبية والشخصية كادت أن تهدد وجود لبنان»، لافتاً إلى أن «الأزمة السياسية.. والأزمة الاجتماعية التي من مظاهرها البارزة فضيحة النفايات، تحتاج إلى إنجاز الحوار بحلول ناجحة وناجعة وسريعة لأن الاستمرار في لعبة عض الأصابع الجارية إنما تتم على حساب الوطن والمواطن».
ما قاله بري لا يعارضه المعتصمون. لكنهم يختلفون معه في نظرته إلى الحلول. بالنسبة لهم السلطة الحالية فشلت وعليها أن تعترف بذلك، وتبدأ مرحلة إعادة تشكيل سلطة جديدة يختارها الشعب من خلال قانون انتخابي عادل.
الصحافيون الضحية
في اليوم الحواري الطويل، كان الصحافيون ضحية. هؤلاء وبالرغم من حملهم لبطاقات خاصة بالحوار، وجدوا أنفسهم يمشون لنحو ساعة في اللهيب ووسط الرمال ليتمكنوا من الدخول إلى ساحة النجمة. للوصول إلى المدخل الرسمي لـ «المنطقة العسكرية» مقابل «البيال»، المطلوب المرور من أمام جامع محمد الأمين فجريدة «النهار»، ثم المرور إلى خلفها عبر أرض وعرة مليئة بالأشواك، قبل الوصول إلى شارع الأورغواي ثم النزول نحو القاعدة البحرية، ويساراً باتجاه «بيال»، ثم الالتفاف مجدداً بمحازاة أسواق بيروت وصولاً إلى ساحة النجمة.
من فرح لوصوله إلى مبنى مجلس النواب، إن كان من خلال السير في «درب الجلجلة» أو عبر تسلق الحواجز الحديدية، بإذن من القوى الأمنية، ممنياً النفس بقسط من الراحة في بهو المجلس كما جرت العادة، فوجئ بمنعه من الدخول إلى المبنى. لا بد من الانتظار أمام الدرج المؤدي إلى المجلس، لأن شخصية هامة ستلقي كلمة أثناء دخولها، علماً أن معظم المشاركين في الحوار دخلوا من باب جانبي. ساعة عصيبة عاشها المصورون والإعلاميون والصحافيون، ليتبين أن الرئيس تمام سلام هو المقصود. لكن أحداً لم يقل لماذا لم يكن بالامكان الانتظار في البهو أو في غرفة الصحافة أو في أي قاعة داخلية. قال سلام كلمته، معلناً عقد جلسة استثنائية عند الخامسة عصراً، لمناقشة تقرير الوزير أكرم شهيب حول النفايات. وفيما يتعلق بالحوار الوطنى، أعرب عن أمله أن يحقق هذا الحوار الخير للبلاد والشعب، داعياً القوى السياسية للمساهمة بإيجابية وفاعلية في إنجاح هذا الحوار للمساهمة فى حل مشكلات البلاد».
دخل الرئيس سلام إلى المجلس وصار بإمكان الصحافيين أخذ قسط من الراحة، في مكتبة المجلس في مبنى مكاتب النواب.
بانتظار بري
ساعات مرت على انطلاق الحوار، الذي لم تغب التظاهرات المطلبية عن مناقشاته. في هذا الوقت، كان المصورون قد دعيوا إلى القاعة العامة حيث يفترض أن يعقد الرئيس بري مؤتمراً صحافياً. ثبتت الكاميرات حيث يجب، وكذلك توزع الصحافيون على مقاعد النواب. صمت مطبق واستعداد لدخول بري، في الوقت الذي كان أعضاء طاولة الحوار يخرجون من المجلس بهدوء وبلا تصريحات، بعدما «احتجز» الصحافيون في القاعة العامة. ما هي إلا لحظات حتى كانت المفاجأة. ليس بري من جلس خلف عشرات الميكــروفونات التي ثبتت أمام الكرسي في وسط القاعة. دخل الأمين العام لمجلس النواب عدنان ضاهر حاملاً ورقة بيضاء وسط تأفف وانزعاج الصحافيين مما اعتبروه «خديعة».
قال ضاهر حرفياً: «بعد أن افتتح دولة الرئيس نبيه بري الجلسة بكلمة، تحدث المشاركون عارضين وجهة نظرهم من القضايا المطروحة، مع التركيز على البند الأول المتمثل بانتخاب رئيس للجمهورية والخطوات المطلوبة للوصول إلى هذا الأمر، وحدد موعد الجلسة المقبلة ظهر الأربعاء المقبل».