Site icon IMLebanon

اليمن بين الإنسانية والسياسة

 

الأكيد أنّ على الأمم المتحدة إثارة الموضوع الإنساني في اليمن بكل أبعاده. هناك مأساة ليس بعدها مأساة تطال ثلاثة عشر مليون إنسان يعانون من الجوع والأمراض المستشرية. هذا ما سعت إلى التنبيه إليه ممثلة الأمم المتحدة في اليمن ليز غراند التي اعتبرت ما يشهده أفقر البلدان العربية «الكارثة الإنسانية الأكبر» في عصرنا هذا.

 

تبقى للموضوع الإنساني الأولوية بالنسبة إلى الأمم المتحدة، لكن اللافت أن المبعوث الجديد للأمين العام مارتن غريفيث لم يتمكن إلى اليوم من وضع إطار يمكن أن يُساهم في بلورة أسس لحل سياسي. مثل هذا الحل السياسي يُساهم إلى حدّ كبير في الخروج من الوضع القائم حالياً، والذي يذهب ضحيته اليمنيون الفقراء الذين يُشكلون الأكثرية الساحقة في البلد.

 

هناك خوف من أنّ يكون التركيز على البعد الإنساني في اليمن يعكس في واقع الحال عجزاً عن الخوض في الموضوع السياسي. من يتمعن في عمق الأزمة اليمنية التي بدأت بالانقلاب الذي قام به الإخوان المسلمون على علي عبدالله صالح في العام 2011 تحت غطاء «الربيع العربي»، إنّما يكتشف كمية التعقيدات التي بات اليمن يعاني منها. ما كان غائباً، ولو في الظاهر، عن اليمن طفا على السطح بما في ذلك المشكلة الطائفية والمذهبية والمناطقية وكلّ ما هو متفرّع عنها أو له علاقة بها. هناك مشكلة اسمها طموحات الحوثيين (أنصار الله) الذين ليسوا سوى أداة إيرانية لا أكثر.

 

جاء ظهور الحوثيين، بمعنى خروجهم من صعده وانتشارهم في البلد كلّه، بفضل الإخوان المسلمين الذين لم يحسبوا حساب ما بعد خروج علي عبدالله صالح من رئاسة الجمهورية. سلّم هؤلاء صنعاء على صحن من فضّة إلى الحوثيين وذلك بعدما قرّر عبد ربّه منصور هادي عدم التصدي لهم في عمران في تموز (يوليو) 2014. كان الجيش وقتذاك في إمرة الرئيس الانتقالي الذي اعتقد أنّ في استطاعته عقد صفقة مع الحوثيين. لم يدرك عبد ربّه أنّ هؤلاء كانوا المشروع المضاد لـ«الشرعية» والرافض له، وأنّ علي عبدالله صالح لم يعد، بعد خروجه من الرئاسة في شباط (فبراير) 2012، يُشكّل خطراً عليه وعلى أيّ طرف آخر.

 

باستثناء انتزاع نجلي الزعيم الراحل علي عبدالله صالح (صلاح ومدين) من الحوثيين، لم يستطع غريفيث إلى اليوم تحقيق أي خطوة إيجابية في بلد تشظّى بكل ما في الكلمة من معنى. الثابت، لدى الذين يعرفون ولو القليل عن اليمن، انّ الحل ليس بين الحوثيين و«الشرعية» ممثلة بالرئيس الانتقالي عبد ربّه منصور هادي. لن يقدّم تغيير عبدربّه لرئيس الوزراء احمد بن دغر في شيء. الإقالة ليست أكثر من نكتة سمجة لن تضحك أحداً ولا تغني عن إعادة النظر في وضع الرئيس الانتقالي نفسه ووضع «الشرعية» ككلّ. الحل يبدأ بإعادة تشكيل «الشرعية»، التي يحتاج التحالف العربي بقيادة المملكة العربية السعودية إلى غطائها لمتابعة «عاصفة الحزم» التي ليست سوى عمل دفاعي لا أكثر، ولم تكن في يوم من الأيّام غير ذلك. في الواقع، لم يكن من خيار لدى التحالف العربي غير السعي بواسطة القوة العسكرية إلى حصر النفوذ الايراني في اليمن، وهو نفوذ تمدد مع الوقت وبلغ عدن وميناء المخا الذي يمكن منه إغلاق باب المندب.

 

ما دام لا بدّ من تسمية الأشياء بأسمائها، لا مفرّ من الاعتراف بالدور الذي لعبته دولة الإمارات العربية المتحدة في تحرير عدن من الحوثيين وفي إخراجهم من المخا وجعلهم ينكفئون أكثر في اتجاه مناطق معينة في الشمال.

 

تُشير التحركات الأخيرة لمبعوث الأمين العام للأمم المتحدة إلى رغبة واضحة في توسيع دائرة اتصالاته بالأطراف اليمنية تمهيداً لمشاورات قد يدعو إلى عقدها الشهر المقبل في لندن. صحيح أنّ ليس في استطاعته تجاهل «الشرعية» والحوثيين، لكنّ الصحيح أيضاً أنّ من الخطأ حصر أي مفاوضات أو مشاورات بهما. لا يمثل الحوثيون كلّ الشمال اليمني ولا تمثّل «الشرعية» الكثير في اليمن وذلك على الرغم من كلّ المساعدات التي تلقتها ولا تزال تتلقاها. ليست لدى عبد ربّه منصور القدرة على زيارة مسقط رأسه في محافظة أبين. فكيف له أن يتحدث عن كلّ اليمن، وعما هو مسموح به وغير مسموح به. الأخطر من ذلك كلّه أنّ غريفيث يعمل حالياً على تغطية عجزه السياسي عن طريق التركيز على الوضع الإنساني. ليس ذلك سوى تأجيل للذهاب إلى لبّ الموضوع الذي هو سياسي أصلاً. في غياب القدرة على الذهاب إلى الموضوع السياسي، سيبقى اليمنيون يعانون من الجوع والفقر وانعدام الأدوية والمياه وانتشار الأمراض.

 

تكمن مأساة اليمن في أن البلد دمّر كلياً. هرب الجنوبيون في العام 1990 إلى الوحدة بعد إفلاس نظام كان عبارة عن منتج لسلسلة من الحروب الأهلية بدأت مع الاستقلال في خريف العام 1967 ولم تنتهِ بتحقيق الوحدة. المؤسف أن ليس بين الجنوبيين سوى قليلين يفكّرون بطريقة نقدية. هناك من يحتفل هذه الأيّام بذكرى مرور خمسة وخمسين عاماً على «ثورة 14 أكتوبر»، أي على بدء مقاومة الوجود البريطاني في اليمن الجنوبي. قليلون يمتلكون جرأة القول إنّه لو بقيت بريطانيا، نعم بريطانيا المستعمرة، لكانت هناك في جنوب اليمن دولة قانون ونظام ومدارس ومستوى تعليمي راقٍ وطرقات ونظافة وعناية صحّية ونظام بريدي وملاعب رياضية لائقة وليس انتشار لقوى التطرف والتخلّف كانتشار النار في الهشيم.

 

كلما سارع مارتن غريفيث في الذهاب إلى السياسة، كان ذلك في مصلحة اليمن. لا تستطيع المأساة الإنسانية الانتظار أكثر. المدخل لحل هذه المأساة والمباشرة في إيجاد مخارج منها يكون بالسياسة، كما قد يكون بجعل الحوثيين يستوعبون حجمهم الحقيقي بدل الاستمرار في اعتبار أهل صنعاء والحديدة رهائن لديهم. هذا يتطلب حسماً سريعاً لمعركة الحديدة. في غياب مثل هذا الحسم الذي وضعت قوى دولية عراقيل في وجهه، لا فائدة من الصراخ والعويل كما تفعل ممثلة الأمم المتحدة المقيمة في اليمن، على الرغم من حقّها في ذلك.

 

في غياب مثل هذا الحسم تمهيداً للخوض في السياسة والبحث عن صيغة جديدة لليمن، تبدو المأساة اليمنية مرشحة للاستمرار طويلاً. ثمة من يقول إنهّا مأساة العصر. إنّها بالفعل كذلك. هذا عائد إلى إنّها صارت مأساة منسية..