للمرة الأولى في التاريخ الحديث لدول المنطقة العربية ومجتمعاتها تتداخل ساحات القتال بين المشرق والخليج، مع العلم أن حرب اليمن ليست شبيهة بالحرب الدائرة في سوريا والعراق. حرب اليمن محورها الساحة وليس الدولة التي انهارت ومعها السلطة الضائعة في جغرافيا البلاد المنقسمة بين الشمال والجنوب وداخل كل منهما. النزاع ليس فقط حول الدولة وسلطتها بل هو نزاع يبحث عن دولة وسلطة في مجتمع لا يجمع أهله سوى الاسم، اليمن، الذي كان سعيداً. في اليمن عصبيات ضاربة الجذور في الجغرافيا والتاريخ والمذاهب والقبائل، قبل أن تتحول البلاد ساحة لحروب دول الجوار. التداخل بين المحلي والخارجي، ببعديه، العربي المباشر والإقليمي الأوسع، بلغت درجات غير مسبوقة في السنوات الأخيرة، قبل «الربيع العربي» وبعده. المملكة العربية السعودية، الجار الأكثر التصاقاً بالوضع اليمني، حيث التداخل كبير بين الشعبين وفي جغرافيا الحدود والتاريخ. في حرب اليمن صراع نفوذ بين الخليجين، العربي والفارسي، وبين المذاهب المتناحرة، وحول المغالاة باسم الدين، وحول النفط والفقر. السلطة المركزية وحدها تفتقر إلى التماسك والنفوذ المطلوب.
«عاصفة الحزم» هي الرد الخليجي بقيادة سعودية على عاصفة من نوع آخر، وإن كانت رياحها هادئة: «مفاوضات السلام» بين الولايات المتحدة، الحليف التاريخي لدول مجلس التعاون الخليجي، وإيران، العدو التاريخي وعلة وجود مجلس التعاون الذي أنشئ في 1981، بعد عامين على الثورة الإسلامية. أما في المشرق العربي فالمصالح متنوعة ومتداخلة، هناك الحليف والعدو يتعاونان، وإن بشكل مستور، للتصدي للتنظيمات الجهادية المتطرفة، بينما في اليمن يتصارعان. الحليف والعدو يتفاوضان في أجواء «رومنسية» على ضفاف بحيرة Leman السويسرية، بينما وصل النفوذ الإيراني إلى حدود المملكة العربية السعودية، وجاء التباهي باستعادة أمجاد ماضٍ ولَّى زمنه ليزيد الطين بلّة.
حرب اليمن في ستينيات القرن الماضي جاءت في سياق تداخل سياسة المحاور الإقليمية والدولية بين القاهرة والرياض، وانتهت بعد حرب 1967 فتمت المصالحة بين مصر والسعودية في قمة «اللاءات الثلاث» في الخرطوم بعد أسابيع على الهزيمة. أما حرب اليوم فالحسم العسكري لن ينهي النزاعات الداخلية ومعها مسألة الحكم والسلطة، ولن يفي بالغرض المطلوب، وهو غرض غير واضح المعالم والغايات. فمن سيحكم اليمن بعد «عاصفة الحزم»، أم سيعود اليمن شطرين، كما كان قبل الوحدة في 1990، أو ربما شطوراً متعددة. وعلى الأرجح، يمن ما بعد «العاصفة» مشروع فوضى شبيهة بالحالة الليبية. الحوثيون، كما سواهم من أطراف النزاع، الرئيس السابق علي عبد الله صالح والقبائل والأحزاب والإخوان المسلمين و»القاعدة»، يمنيون أقحاح، فلا هم مرتزقة ولا وافدون. الحملة الجوية تظل قاصرة ما لم تُستكمل بعمليات برية، وهذا بحد ذاته مسار حافل بالمخاطر والمفاجآت. الحوثيون لم يتمددوا في البلاد بسلاح الطيران ولم يخسر الرئيس عبد ربه منصور هادي موقعه بسبب افتقاره إلى سلاح جو رادع.
التوازنات السياسية والعسكرية في الخليج شهدت اهتزازات متتالية منذ الحرب العراقية ـ الإيرانية والاجتياح العراقي للكويت، ولاحقاً «عاصفة الصحراء» في 1991 لتحرير الكويت، التي وفرت الغطاء الأمني لدول الخليج. إنها تحديات تتجاوز القدرات الذاتية لدول مجلس التعاون، لا سيما بعد سقوط الدولة في العراق التي كانت بمثابة المجال الفاصل بين إيران ودول الخليج، على رغم التهديدات التي شكلها صدام حسين لأمن الخليج. والمسألة تزداد تعقيداً عندما تُزجّ «الشرعية» في المعركة، معززة بمقولة إرادة الشعوب، المغيبة، من المحيط إلى الخليجين. ولم يكن للشرعية أي اعتبار في حالات النزاع الأخرى التي حصلت أخيراً في سوريا ومصر والعراق والبحرين، على رغم اختلاف عناصر هذه الأزمات وأسبابها.
لكن بعيداً من الشعارات واللغة الخشبية، مثل «التمدد الإيراني»، أو بكلام أدق، «الشيعي» يشكل تهديداً غير مسبوق للأطراف المتضررة، لا سيما بعد التحولات الكبرى التي أصابت سوريا والعراق، والرد عليه كان مسألة وقت لاتخاذ القرار الحازم لتصحيح التوازنات المختلة في المنطقة. أحداث اليمن المتسارعة شكلت الفرصة الملائمة للتصدي، وحتى بمعزل عن الموقف الأميركي غير المكترث، أو ربما بسببه. وجاء الرد العربي في قمة شرم الشيخ «بلاء» واحدة رافضة لتمدد النفوذ الإيراني وأتاح لمصر دوراً إقليمياً عبر الإعلان عن تشكيل قوة عربية مشتركة، هذا في حال أنشئت وتحددت مهامها. أما الأمن القومي العربي فهو غير آمن، قطري لا قومي، وعربي «بالمفرق». والحقيقة أن لا قضية جامعة لعرب اليوم سوى صراع النفوذ في عالم عربي مكبّل، ممذهب ومتراجع.
إنه الصراع على اليمن، بعد الصراع على سوريا والعراق، وقبل ذلك الصراع على لبنان، ولكل صراع ظروفه وأدواته. فمن الإمامية إلى العروبة والثورة والماركسية، يعود اليمن إلى الشرق الأوسط القديم، بل إلى أقدم ما يحتويه من نزاعات وعصبيات متناحرة لا تعني سوى أهلها، حكاماً ومحكومين.