اعتمد الحوثيون، أي «انصار الله» في اليمن سياسة النفس الطويل التي خدمتهم في الماضي إلى حدّ كبير. نراهم الآن يتابعون تمدّدهم في اتجاه تعز، حيث الكثافة السكّانية الشافعية، وذلك في وقت يبدو الجنوب مقبلا على تطورات كبيرة. الدليل على ذلك، تصاعد الدعوات إلى الإنفصال ورفع اعلام ما كان يعرف باليمن الجنوبي في عدن.
كان ملفتا تفادي «انصار الله» المواجهة المباشرة مع الحكومة الجديدة التي شكّلها الرئيس الإنتقالي عبد ربّه منصور هادي من دون رضاهم. هذا لن يمنعهم من الإستفادة قدر الإمكان من هذه الحكومة لتثبيت اقدامهم في مؤسسات الدولة. هدفهم المباشر ضمّ نحو تسعين الف عنصر من «انصار الله» والموالين له إلى القوات المسلّحة والأجهزة الأمنية، لكنّ الرئيس الإنتقالي قد يسترضيهم بعشرين الفا فقط!
يستند الحوثيون في مسعاهم إلى «اتفاق السلم والشراكة» الذي وقعته احزاب عدة مع الحوثيين بحضور عبد ربّه منصور ورعاية ممثل الأمين العام للأمم المتحدة جمال بنعمر.
لا يستطيع من لديه ذاكرة، تجاهل أنّ الإتفاق وقّع بقوّة السلاح وقد فرضه «انصار الله» فرضا بعد اجتياحهم صنعاء واحتلال مؤسسات الدولة، بما في ذلك وزارة الدفاع والبنك المركزي.
بكلام اوضح، يستفيد الحوثيون من الحكومة الجديدة لتمرير ما يهمّهم تمريره ويخدم مصالحهم في المدى البعيد. باتوا موجودين في كلّ مؤسسة من مؤسسات الدولة وفي كلّ مكتب من مكاتب الوزارات في صنعاء. لم يعد هناك قرار يمرّ من دون موافقتهم!
عندما لا يعجبهم وضع ما، لا يجد «انصار الله» حرجا في التصرف بالطريقة التي تناسبهم. على سبيل المثال وليس الحصر، قرّروا تغيير محافظ عمران الذي عيّنه عبد ربّه منصور. استبدلوه بشخص موال لهم. ليس لدى السلطة اليمنية ما تردّ به على القرار الحوثي. يريد «انصار الله« القول بكلّ بساطة أنّهم الدولة الجديدة في اليمن. لم يكن كلام عبد الملك بدر الدين الحوثي زعيم «انصار الله» في مناسبة عيد الفطر عن قيام نظام جديد كلاما عابرا. كان كلاما في غاية الجدّية.
اراد الحوثي القول أنّ «ثورة الواحد والعشرين من ستمبر » الغت «ثورة السادس والعشرين من سبتمبر » التي اقامت الجمهورية وأنهت النظام الإمامي. كان دخول الحوثيين صنعاء بالطريقة التي دخلوا بها ونشرهم ميليشيا «اللجان الشعبية» في كلّ شارع ودائرة رسمية ايذانا بقيام نظام جديد في اليمن. إنّه نظام ما بعد سقوط المعادلة التي كانت تتحكّم بالجمهورية العربية اليمنية، ثمّ بالجمهورية اليمنية، اثر قيام الوحدة في أيّار ـ مايو من العام .
هناك في اليمن محاولة جدّية لوضع اليد على البلد. ليس سرّا أن «انصار الله» يعملون انطلاقا من التوجهات الإيرانية. هذا ما يفترض أن لا يستخفّ به أي متعاطٍ في الشأن اليمني، خصوصا اذا اخذنا في الإعتبار الأهمية الإستراتيجية للبلد وحدوده الطويلة مع المملكة العربية السعودية وسلطنة عُمان والشاطئ الممتد من بحر العرب إلى البحر الأحمر.
هادن «انصار الله» الحكومة الجديدة ولكن من دون مهادنتها. ما زالوا يتحرّكون في اتجاه الوسط اليمني. اسقطوا عمليا مطار تعز ومنطقة القاعدة. تشرف المنطقة على اكبر المدن اليمنية وهي ذات أهمية إستراتيجية. ما زال الحوثيون يبحثون عن وسيلة للإقتراب اكثر من قلب تعز من جانب ومن مضيق باب المندب الإستراتيجي الذي يعني الكثير بالنسبة إلى ايران…وكلّ دولة من دول الخليج من جانب آخر.
هناك واقع لم يعد في الإمكان تجاهله، خصوصا بعد دخول «انصار الله» منزل الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر، زعيم حاشد الذي توفّى في اواخر ، في صنعاء وحملهم ابن شقيقه سام الأحمر على تسليم نفسه للشرطة العسكرية. كانت حجّتهم أنّ سام من «القاعدة» وأنّه مطلوب في جريمتي اغتيال تحملان طابعا سياسيا.
صار «انصار الله» ينفّذون القانون بيدهم بالطريقة التي تناسبهم، في صنعاء وغير صنعاء، خصوصا بعدما استطاعوا فرض «اتفاق السلم والشراكة» بديلا من المبادرة الخليجية التي كان يفترض ان ينتج عنها دستور جديد.
بموجب هذه المبادرة التي وقّعها الرئيس علي عبدالله صالح، صار هناك رئيس انتقالي، مُدّد له سنة كاملة، اسمه عبد ربّه منصور هادي، كما انعقد مؤتمر للحوار الوطني خرج بـ»الدولة الإتحادية» والأقاليم الستّة التي تبيّن أنّها ليست سوى حبر على ورق.
يتلهّى المجتمع الدولي حاليا بعملية سياسية لم يعد لديها وجود في اليمن. يفرض عقوبات على علي عبدالله صالح بحجة أنّه يعرقل هذه العملية السياسية التي وافق ممثل الأمين العام للأمم المتحدة على الإستعاضة عنها. هل من نكتة أكثر سماجة من هذه النكتة؟
لم يعد الموضوع موضوع عملية سياسية لا وجود حقيقيا لها في بلد يسير على ايقاع عملية عسكرية. ادخال «انصار اللّه» في الجيش والمؤسسات الأمنية جزء من هذه العملية العسكرية التي ستحمّل موازنة الدولة اليمنية عبء دفع عشرين الف راتب اضافي…
لم يعد موضوع اليمن موضوع عملية سياسية تولّى علي عبدالله صالح احباطها. الموضوع أنّه لا يوجد من لديه جواب على سؤال في غاية البساطة هو اين ستتوقّف شهية الحوثيين وما افق اندفاعتهم العسكرية؟ ولماذا لم توجد دولة يمنية تتصدّى لهم فعلا في عمران، علما أنّ كلّ من يعرف ولو القليل عن اليمن، يعرف خصوصا أنّ سقوط مدينة عمران يفتح ابواب صنعاء على مصراعيها.
الثابت أنّ «انصار الله» باتوا يواجهون مقاومة حقيقية في مناطق الوسط، وهي مناطق شافعية، على الرغم من أنّهم عملوا على اختراقها في العمق عبر شخصيات ومراكز قوى معيّنة. كذلك، سعوا إلى مدّ جسور مع «الحراك الجنوبي» وهو مجموعة حركات انفصالية، قد لا يكون من رابط يجمع في ما بينها.
ولكن، يبقى في نهاية المطاف أنّ اليمن في حاجة إلى صيغة جديدة، بعدما صارت نتائج مؤتمر الحوار الوطني في خبر كان وبعدما باشر الحوثيون تنفيذ عملية سياسية على وقع تحركات عسكرية قد تبدو مدروسة إلى حد كبير لو لم يكن اليمن استثناء.
اليمن استثناء بمعنى أنّه بلد صعب المراس…حتّى بالنسبة إلى مجموعة مثل «انصار الله» تتقن لعبة الإستفادة من كلّ الفرص المتاحة، خصوصا من أخطاء خصومها، على رأسهم الإخوان المسلمون. هؤلاء اعتقدوا في مرحلة معيّنة أنه سيكون في استطاعتهم ركوب موجة «الربيع العربي» لخلافة علي عبدالله صالح. لم يستوعبوا أن زمن الإنقلابات ولّى، منذ فترة طويلة وأن نقل المعركة إلى داخل اسوار صنعاء سيرتدّ عليهم، كما قد يرتدّ في يوم، ليس ببعيد، على الحوثيين انفسهم. ليس تفجير مقرّ اقامة السفير الإيراني في صنعاء سوى مؤشر إلى تصاعد موجة العنف ذات الطابع المذهبي. إنّه مؤشر إلى أن الطريق إلى صيغة جديدة لليمن ما زال في بدايته!