مصطلح الساحات المترابطة على نسق نظرية الأواني المستطرقة هو الذي ساد منذ اشتعل فتيل الأزمة في الساحة السورية قبل أربعة أعوام ونيف وازداد ترسخاً وحضوراً مع اندلاع المواجهات في الساحة البحرينية ثم في الساحة العراقية وصولاً الى ساحة اليمن غير السعيد في أقاصي شبه الجزيرة العربية.
في بيروت ثمة من شرع منذ زمن بعيد في عملية ربط منسقة ودقيقة بين سلسلة أحداث وحروب صغيرة توالت في الساحة اللبنانية، وبين الحروب والمواجهات المتنقلة في هذا البلد وتلك الساحة، وبنى على هذا الربط عمارة من الحسابات والاحتمالات السياسية.
ولا شك في أن الحدث اليمني الداخل للتو فصلاً جديداً غير مسبوق مع الغارات التي تشنها طائرات التحالف “العشري” على مناطق متعددة من الأراضي اليمنية، أعاد السؤال وحبل الهواجس مجدداً عن مدى تأثر، وتفاعل، مكونات الساحة الداخلية مع هذا الحدث المنطوي على فيض من الاحتمالات التفجيرية.
ربما يكون وزير الخارجية جبران باسيل قد نجح في ابتداع صيغة حمّالة أوجه في مقاربة الحدث اليمني خلال اجتماعات وزراء الخارجية العرب في شرم الشيخ أول من أمس، مما أرضى كل افرقاء الصراع من دون استثناء. ولكن يتبدى للمراقبين ان ثمة صعوبة كبرى هذه المرة في تحصين الساحة الداخلية في وجه تفاعلات الحدث اليمني وتداعياته المحتملة والبالغة الخطورة وذلك بفعل عوامل واعتبارات عدة أبرزها:
– ان الحدث المتسارع كاسر للمعادلات والتوازنات المعهودة ويكاد يكون خارج المألوف من الصراعات منذ انتهاء الحرب العراقية – الايرانية، اذ للمرة الأولى، على سبيل المثال، يتجلى تحالف واسع نسبياً على أساس من الخلفية المذهبية تقوده السعودية مباشرة بما تمثل ماضياً وبما تختزن حاضراً من توجسات ومخاوف وطموحات. وبمعنى أكثر وضوحاً نجحت الرياض عبر الحلف الذي تتصدره الآن في اسقاط تحليلات وقرارات سرت قبل فترة قصيرة فحواها ان السعودية قصرت عن اقناع دول بعينها، وفي مقدمها مصر وباكستان، في الانحياز اليها في مواجهتها المتوالية فصولاً واشكالاً مع طهران.
– ان لجوء السعودية وحلفها العريض الى هذا النوع من الحروب والمواجهات تحت عنوان مكافحة التمدد الايراني يعني أمرين: الاول انسداد الأفق أمام أي عمل سياسي وديبلوماسي، والثاني ان مستوى الصراع السعودي – الايراني قد بلغ مرحلة غير مسبوقة خصوصاً في العقدين الماضيين. صحيح أن الحوثيين في اليمن سبق لهم أن دخلوا في تجربة مواجهة عسكرية مباشرة مع السعودية خلال الاعوام السبعة الماضي، إلا أن الأمر مختلف هذه المرة إذ لم يعد الصراع نزاعاً حدودياً كما في السابق بل على كل الجغرافيا اليمنية البالغة أكثر من 500 الف كيلو مربع بعدما نجح الحوثيون في الخروج من معقلهم الأساسي صعدة الجبلية وبلغوا في رحلة تمدد وعرض قوة صنعاء وأخيراً عدن على سواحل باب المندب الاستراتيجي، وصار يشار اليهم على انهم حلفاء طهران الخلّص كحال “حزب الله” في لبنان.
– ان للحدث اليمني مقدمات تراكمية أبرزها أن الرياض لم يعد في مقدورها ادارة صراعها الطويل مع طهران وفق قواعد اللعبة المعروفة، لذا قررت انتهاج تجربة أكثر صدامية وجرأة بعد سريان مقولة ان طهران نجحت في بسط نفوذها المباشر على 4 عواصم عربية خلال أقل من عقد من الزمن.
– ان ثمة مناخات توحي بأن الضربة التي بدأت على اليمن قد تتدحرج لتبلغ حدود التدخل البري والانزال البحري، مما يعني ان الاوضاع مشرعة على احتمالات التصعيد.
– على المستوى الداخلي اللبناني، كان لافتاً ان انصار المحور السعودي او الذين قدموا طلبات انتساب اليه، لم يتركوا فسحة من الوقت ولو قصيرة للانتظار اذ سرعان ما جاهروا بتأييدهم للخطوة السعودية ووصفها بأنها خطوة حكيمة وشجاعة و”تندرج في اطار الحق المشروع للدفاع عن أمنها القومي” لان ايران بلغت حديقتها الخلفية.
– في المقابل بادر انصار المحور الايراني الى ادراج العملية في خانة العدوان المدان والمغامرة غير المأمونة العواقب تذكيراً بالوصف الذي اطلقته الرياض على عملية “حزب الله” ضد الاسرائيليين في تموز 2006 والتي فتحت باب الحرب الاسرائيلية على لبنان عامذاك. في حين كانت المناخات الواردة من الضاحية الجنوبية تشير الى أن الأمين العام للحزب السيد حسن نصرالله سيطلق مواقف صادمة ويقول الأمور كما هي بدون ديبلوماسية في مقام قراءة عميقة للتطورات على باب المندب.
من خلال كل هذه الوقائع لا بد لأي مراقب من ان يستنتج ان المنطقة أمام طور آخر من الصراع الاقليمي الضاري، مما يعني ان المطلوب بذل جهود أكثر استثنائية من ذي قبل للحفاظ على الوضع الذي نشأ منذ كانون الأول الماضي، أي لحظة انطلاق حوار “حزب الله – تيار المستقبل” والذي انطوى في حينه على أبعاد ودلالات تشي برغبة الطرفين في السعي لايجاد عازل يقي الوضع الداخلي صدمات الخارج التي يتوقع ان تكون تراكمية ومتدحرجة.
ففي الوقت الذي نمت معادلة رغبة الطرفين في تامين نوع من الاستقرار الداخلي، لم تكن الأمور قد بلغت حد انتزاع الحلف اليمني المسحوب على طهران مدينة عدن بسرعة قياسية قلبت كل المعادلات والموازين واطاحت كل المعادلات التي كان خصوم المحور الايراني يسعون لتكريسها في كل ساحات الصراع ولاسيما في الساحة السورية. وهكذا فالواضح ان الصراع الاقليمي بلغ ذروته خلال الساعات الماضية وبدا وكأن وجه المنطقة في طور التحول اذ لا يمكن منظمة الدول الخليجية ان تخسر اليمن وهي التي لم تهضم بعد خسرانها للعراق.
الذين زاروا رئيس مجلس النواب نبيه بري خلال الساعات الماضية لم يجدوا عنده موجة التفاؤل المعتادة حتى في أكثر الأوقات عصبية، بل وجدوا حالاً من التوجس ودرجة عالية من المخاوف. وعليه ثمة مبررات لطرح السؤال: هل يصمد الستاتيكو الذي ارتسم أخيراً في الساحة اللبنانية وتجلى أكثر ما يكون في حوار عين التينة في ظل هذا الاحتدام غير المسبوق وفي ظل نظرية الساحات المترابطة شاء اللاعبون فيها أم أبوا؟