هجمت «داعش» في العراق حتى وصلت الى مشارف بغداد واربيل، فجعلت أميركا التصدي لها أولويتها الأولى، وتراجعت المسألة السورية في سلم اهتماماتها بالمقارنة مع مسألة الإرهاب والعراق. وهجم الحوثيون في اليمن واحتلوا صنعاء، فاطلقت السعودية وعدد من الدول العربية حرب «عاصفة الحزم» ضدهم. هل تتراجع مكانة الثورة السورية عربياً، بعد هذا الحدث، بعد ان تراجعت أميركياً ودولياً؟
لا شك في أهمية اليمن لاستقرار بلدان الخليج، التي مدت ايران يدها الى خاصرتها لاعتقادها انها رخوة، فكان ردها ضروريا ليؤكد قدرتها على ضبط أوضاعها وحماية نفسها. لكن موقع اليمن بعيد وطرفي بالنسبة إلى إيران، التي تعلم انها لن تستطيع وضع يدها عليه او على باب المندب، وان احتلاله سيعود عليها، وعلى الحوثيين، بردود أفعال قد لا تكون خليجية فقط بالضرورة، لذلك يرجح ان تكون معركتها فيه لمشاغلة الخليج والعرب عن معركتها الرئيسة في سوريا، الساحة التي تريد تكثيف وتعزيز مواقعها فيها تحسبا لما يمكن ان تأتي به حقبة ما بعد الاتفاق النووي مع أميركا. ليس اليمن في اعتقادي غير مكان فرعي من معركة ايران المشرقية، تريد جر العرب اليه واستنزافهم فيه ريثما تحسم امورها في سوريا.
لن تورط ايران نفسها في حرب مباشرة او طويلة في اليمن، ولن تستولي على باب المندب او تغلقه. اما الحوثيون، فهم اضعف من أن يحتلوا اليمن او يخرجوا باب المندب من الملاحة الدولية. لا يعني هذا ان ايران لا تعمل لأخذ موطئ قدم في جزيرة العرب، ولإعادة هيكلة اليمن سياسيا بحيث تمتلك القدرة على التأثير فيه وتكبير حصتها في علاقات قواه. لهذين السببين، ولبعد اليمن وعجز الحوثيين عن تأسيس سلطة شبيهة بما أقامه حزب الله في لبنان، ايدت فكرة حوار وطني ينال اتباعها منه حصة ما داخل الدولة تستطيع تطويرها عبر أساليب كتلك التي بلورتها واختبرتها في لبنان والعراق، ستزداد قدرتها على تطبيقها في حال استولت وحزب الله على جنوب سوريا ووصلت الى حدود الأردن، ونجحت في ابعاد الخطر عن نظام دمشق.
خلاصة القول: يقعقع السلاح في اليمن، بينما الحرب الحقيقية في سوريا، حيث قام منذ نيف وعشرين عاما التحالف الوحيد الذي نجحت في بنائه مع دولة عربية، وحوّل سوريا الى مركز لنفوذها ووجودها العسكري والسياسي محاط بأطراف وهوامش عربية قابلة للإسقاط بيد فئات موالية مذهبيا لها، تنظمها وتدربها وتسلحها وتمولها. هذه الخطة، وجدت أول تطبيقاتها في لبنان، حيث تم تأسيس تنظيم مذهبي مسلح تابع عسكرياً وسياسياً ومالياً لها ولنظام دمشق اسموه «حزب الله «، شارك في الاشراف على ولادته ورعايته حافظ الأسد وقادة إيرانيون من الصف الأول، كان ظهوره بداية زمن مخالف لطبيعة المنطقة، وطد خضوعه «لولي فقيه« هدفه القضاء على عالم قال الخميني عام 1988 لمجلة اليوم السابع الباريسية إن نظمه القومية، بما فيها نظام البعث السوري، صنائع للصهيونية يجب التخلص منها، اذا كنا نريد تحرير فلسطين، كما خضع لنظام «علماني» طائفي، ساقته طائفيته إلى طهران ووليها الفقيه، الذي غدا حاميه الرئيس رغم انكشاف امره بعد عام 1974 كنظام ابقاه في الحكم تعايشه مع الصهيونية وعداؤه للعرب. بتحوله الى مركز ايراني، تولى نظام الاسد تعبئة وتدريب جماعات إيران الناشطة في محيطه، وأقلم نفسه مع دوره الجديد، رغم انه وضعه في مواجهة فاضحة مع مقولاته البعثية والأيديولوجية، وفي مقدمها ان العربي لا يقاتل او يقتل العربي، وان للرابطة القومية مكانة تعلو على اية رابطة أخرى، ولا بد ان تكون لها الأولوية في علاقات سوريا مع جوارها. خلال الحرب الإيرانية / العراقية، شارك النظام الاسدي مشاركة مباشرة في الهجوم على العراق البعثي، وارسل وحدات نظامية اطلقت صواريخ سكود على بغداد والموصل والبصرة، من أراضي ايران، كما استقدم طائرات إيرانية إلى مطار السين العسكري، القريب من حدود العراق، لمهاجمة مطاراته الواقعة في الجزء الغربي منه.
بتحويل سوريا إلى مركز إيراني، بدأ نظامها ينشر تجربة حزب الله في بلدان قررت طهران اختراقها، وبخاصة منها العراق والخليج، حيث احتضنت الاسدية الموالين لها ودربتهم، وهربت كميات كبيرة من السلاح الى الكويت وشمال اليمن وشرق السعودية، وأسست قيادة عسكرية مشتركة مع الحرس الثوري مقرها قبو سفارتها في دمشق، وسمحت بتوسع نشاط المخابرات الإيرانية في عاصمتها، فلم يبق ناشط او مهتم بالشأن العام إلا تواصلت معه او راقبته، في حين كان اقتصاد سوريا يربط اكثر فاكثر باقتصادها، وكانت عمليات تشيع واسعة تنظم في مناطق مختلفة من سوريا، مصحوبة ببناء مساجد جعفرية في ارياف الساحل وحمص، وكان حافظ الأسد يطلب- عام 1980 -من شيوخ العلويين التحول إلى المذهب الجعفري بالتعاون مع ممثليه في سفارة طهران بدمشق، وكانت مواقع عديدة في احياء عاصمة الامويين القديمة تهدم كي تبنى فيها مزارات شيعية اشهرها مزار رقية قرب الجامع الاموي، في حين كانت منطقة السيدة زينب تصير قطعة من ايران، وشوارع دمشق تعج بالإيرانيات.
اندمج النظامان السوري والإيراني وشكلا مركزا مشتركا تتبعه تنظيمات مذهبية متطرفة، مدججة بالسلاح ومنظمة، تمسك ببلدانها بقوة تتحدى قدرات جيوشها، تنضوي في المركز الإيراني / السوري، وتكون جسدا واحدا مترابط الأجزاء معه. واليوم: وبعد مواقف طهران في سوريا والعراق، وقتالها الى جانب نظاميهما الفئويين، ومشاركتها في تدميرهما، وبعد تجربة اليمن، هل يكفي لكسر المركز الإيراني / الأسدي التصدي لكيان محلي يمثله الحوثيون، الذين نستطيع تحويل المعركة ضدهم الى فخ تستنزف فيه ايران، بينما يقع التركيز الحقيقي على كسر الحلقة الاسدية من المركز المعادي للعرب، مع ما سينتج عن ذلك من وقف سفك دماء السوريين، وحماية لبلدان الخليج من إيران التي ستطرد منه بمجرد طردها من بلاد الشام؟